ستر أنوار السرائر بكثائف الظواهر إجلالا لها أن تبتذل بوجود الإظهار و أن ينادى عليها بلسان الاشتهار.

   قلـت: أنوار السرائر هي العلوم اللدنية و المعارف الربانية، و يجمعها علم الربوبية الذي يجب كتمه عن غير أهله، و من أباحه أبيح دمه، و هو الذي قتل بسببه الحلاج، و كثافة الظواهر هي البشرية الظاهرة..

   أو تقول: أنوار السرائر هي الحرية الباطنية، و كثائف الظواهر هي العبودية الظاهرية، أو تقول: أنوار السرار هي علم القدرة، و الكثائف الظاهرية هي الحكمة الظاهرة، فأنوار السرائر معاني لطيفة رقيقة سترها الله بالكثائف الظاهرة، و لذلك رفع الإنكار على أهلها قديما و حديثا حتى قال الكفار.. قال تعالى: (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا) الفرقان/7.. و قالوا: (مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) المؤمنون/33.. و وقوع الإنكار على أولياء الله سنة ماضية، و حكمة ذلك إجلال و تعظيم لها، أن تستبدل و تظهر بوجود الإظهار، و أن ينادى عليها بلسان الاشتهار، فلا يبقى لها سر و لا عز، و لهذا طلب الأولياء بالخمول و استعمال الخراب و التلبيس، قال الششتري رضي الله عنه:

إذا رأيــــت الـوجـــود              قـــد لاح فــي ذاتـــك

هــودس و لازم  الحجـــود            ذاتـــك صفـــاتــــك

و اضـــرب بتــرسـك الـعقــــــــود و الــق عصــاتك

   و التهودس هو التحمق، و الترس ما يستر به الإنسان مواقع النبل، و المراد بالعقود العلائق و الشواغل، أي اضرب بسيف عزمك علائقك و عوائقك، و إلقاء العصا كناية على طرح كل ما يستند إليه أو يعتمد عليه، من أصحاب و أحباب، أو أسباب أو حول أو قوة أو غير ذلك مما يقع الركون إليه، و يحتمل أن يريد بأنوار السرائر معاني الصفات السارية في الذات، و بكثائف الظواهر المحسوسات الظاهرة، فلا ظهور للصفات إلا بالذوات الحسية، و لا قيام للذوات إلا بالصفات، فستر الله سبحانه صفاته الأزلية اللطيفة بظهور الذوات البشرية الكثيفة صونا لسر الربوبية أن يبتذل بالإظهار، أو ينادى عليها بلسان الاشتهار..

   و الحاصـل، أن الأشياء كلها قائمة بين ذات و صفات، بين حس و معنى، بين قدرة و حكمة، فستر الحق تعالى معاني أسرار الذات اللطيفة بظهور الذوات الكثيفة، و ستر المعنى اللطيف بالحس الكثيف، و ستر القدرة بالحكمة، و الكل من الله و إلى الله، و لا موجود سواه، و هذه المعاني اللطيفة هي أردية و قمص للمعاني اللطيفة..

   أو تقول: هي رداء الصون الذي نشر على الكون، فإذا انتهك الرداء، أو قطع بقي المعنى سالما، فالتصرفات القهرية، إنما تجر الأردية و الستور دون المعاني و النور، فالحق منزه و مقدس أن يلحقه ما يلحق العبيد، فلتكف عن طلب المزيد و العجر عن الإدراك من وصف العبيد..

   و قد مثلوا أيضا مثول المعاني اللطيفة في الأشباح الكثيفة بالحبوب اليابسة في الأعصان الرطبة، فهي كامنة مستترة، فإذا نزل المطر اخضرت الأشجار، و أخرجت الثمار التي كانت كامنة فيها، و إلى هذا المعنى أشار ابن البناء في مباحثه الأصلية حيث قــال:

و هــي مـن النفـوس في كمـون        كمـا يكـون الحـب فـي الغصــون

حتــى إذا أرعــدت الرعـــود         و انسكـــب المـاء و لان العـــود

و جــال فـي أغصانهــا الريـاح         فعنـدهــا يـرتقــب  اللقـــاح

   و هــذا آخر الباب السادس عشــر، و حاصلها، آداب السائر في حال سيره بحيث لا يقف مع معصية، و لا يركن إلى طاعة و لا يغلب عليه خوف و لا رجاء و لا قبض و لا بسط، بل يبرز من الغيب فيتلقاه بالمعرفة الرحب، فإذا فعل ذلك أشرقت عليه الأنوار، فتخرجه من رق الآثار حتى تفضي به إلى شهود الملك القهار، لكن لا بد للحسناء من نقاب، و للشمس من سحاب، و لليواقيت من صوان، فأخفيت الأنوار بكثائف الأغيار إجلالا لها أن تبتذل بوجود الإظهار، أو ينادى عليها بلسان الاشتهار، فمن أجل ذلك أخفى أولياءه في خلقه، فلا يطلع عليهم إلا من أراد أن يخصه بما خصهم به من سره، كما أبان ذلك في الفصل الذي يأتي بعده..

 

البـاب التاسع عشر

أسرار الولايـة و علامتها في العارف

   الأولياء طريق الله

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire