ربما وقفت القلوب مع الأنوار كما حجبت النفوس بكثائف الأغيار.

   قلـت: قد تقف بعض القلوب مع أنوار المقامات دون الوصول إلى الغايات، فتحجب عن الوصول، كما حجبت النفوس بكثائف المحسوسات عن إدراك لطائف المعاني و المفهومات، و ذلك إما لعدم وجود شيخ التربية، أو لضعف الهمة عن الترقية، فقد ينكشف لبعض القلوب عن سر توحيد الأفعال، فتفنى في العمل و تذوق حلاوته، فتقف معه هواتف الحقيقة تناديها: الذي تطلب أمامك، و قد ينكشف لها عن سر توحيد الصفات، و تلوح لها أنوار المقامات، كتحقيق الزهد و الورع و صحة التوكل و الرضا و التسليم و حلاوة المحبة و الاشتياق، إلى غير ذلك، فتقنع بذلك و تقف هناك، و المطلوب هو الكشف عن سر توحيد الذات و أنوار الصفات، و أن إلى ربك المنتهى..

   فالنور عبارة عن الحلاوة و القوة التي يجدها المريد في باطنه من مزيد إيمان و قوة إتقان، فحلاوة الخدمة لأهل الفناء في الأفعال، و حلاوة الذكر اللساني أو القلبي لأهل الفناء في الصفات مع الحجاب، و حلاوة الفكرة و النظرة لأهل الفناء في الذات..

   و إن شئت قلت: ربما وقفت القلوب مع أنوار الأحوال فتحجب عن مقامات الرجال، أو مع أنوار المقامات فتحجب عن معرفة الذات، و لذلك قال شيخ الجبل ابن مشيش لتلميذه أبي الحسن: أشكو إلى الله من برد الرضا و التسليم كما تشكو أنت من حر التدبير و الاختيار، خاف رضي الله عنه أن يحجب  بحلاوة الرضا و التسليم عن شهود الذات..

   و اعلم أن الوقوف مع الأحوال أو المقامات إنما هو من عدم الوصول إلى الشيخ، و أما من صحب الشيخ، و أكثر الوصول إليه، فلا بد أن يرحله إلى المقصود، إلا أن يرى همته ضعيفة لا تطيق أنوار الشهود، فيتركه على ما هو عليه حتى تنهض همته إلى شهود المعبود..

   و شبه الشيخ رضي الله عنه حجب القلوب بالأنوار بحجب النفوس بالأغيار لاشتراكهما في الحجب عن الله، لكن حجب النفس بالأغيار أشد لأنها ظلمة، و الظلمة أشد حجابا من النور، و القلوب نورانية، حجبت بالنور، و النفوس ظلمانية حجبت بالظلمة و كثائف الأغيار، و هي ما ظهر من بهجة الدنيا و زخرفها و غرورها و زهرتها و هي التي أشار إليها الحق تعالى بقوله: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) آل عمران/14.. و يدخل فيها ما يلائمها من حب الجاه و الرئاسة و حب المدح و التعظيم و غير ذلك من شهواتها و عوائدها، و هي التي حجبت جل الناس و ساقتهم إلى الخيبة و الإفلاس، نسأل الله العصمة بمنه و كرمه..

   و يدخل في الأغيار العلوم العقلية و اللسانية، فالاشتغال بها و الوقوف مع حلاوتها من أشد الحجب عن معرفة الله، أعني المعرفة الخاصة، و يدخل فيها أيضا الكرامات الحسية، كالطيران في الهواء و المشي على الماء، فالوقوف مع ذلك من أشد الحجب أيضا و لذلك قال بعضهم: أشد حجابا عن الله العلماء، ثم العباد ثم الزهاد، فسبحان من حجب العلماء بعلمهم عن معلومهم، و العباد بعبادتهم عن معبودهم و الصالحين بصلاحهم عن مصلهم، و الله من وراء ذلك كله، و في ذلك يقول الششتري رحمه الله:

تقيدت بالأوهـام لمـا تداخلــت          عليـك و نـور العقـل أورثـك السجنــا

و همـت بأنـوار فهمنـا أصولهـا           و منبعهـا مـن أيــن فمــا همنـــا

و قد يحجب الأنـوار للعبد مثــل          مـا تبعد مـن أظلام نفس حـوت ضغنـا

   و حكمة وجود هذه الأنوار الحسية و الأغيار الظلمانية تغطية و ستر لأنوار السرائر الباطنية، كما أبان ذلك بقولــه:

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire