الكون كله ظلمة، و إنما أناره وجود الحق فيه، فمن رأى الكون و لم يشهده فيه، أو عنده، أو قبله أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار، و حجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار .

   الكون ما كونته القدرة و أظهرته للعيان، و الظلمة ضد النور، و هي عدمية و النور وجودي، و أناره أي صيره نورا، و ظهور الحق تجليه..

   قلــت : الكون من حيث كونيته و ظهور حسه كله ظلمة لأنه حجاب لمن وقف مع ظاهره عن شهود ربه، و لأنه سحاب يغطي شمس المعني لمن وقف مع ظاهر حسن الأواني، و إليه أشار الششتري بقوله:

لا تنظــر إلــى الأوانـي ** و خـض بحر المعنــي ** لعلــك ترانــي

فصار الكون كله بهذا الاعتبار كله ظلمة، و إنما أناره تجلي الحق فيه، و ظهوره فيه، فمن نظر إلى ظاهر حسه رآه حسا ظلمانيا، و من نفذ إلى باطنه رآه نورا ملكوتيا، قال تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)، فتحصل أن قول الشيخ: الكون كله ظلمة، إنما هو في حق الحجاب لانطباع ظاهر صور الأكوان في مرآت قلوبهم، و أما أهل العرفان، فقد نفذت بصيرتهم إلى شهود الحق، فرأوا الكون نورا فائضا من بحر الجبروت، فصار الكون كله عندهم نورا، قال تعالى: (قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) أي من نور ملكوته و أسرار جبروته، و من أسرار المعاني القائمة بالأواني، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم:" إن الله احتجب عن أهل السماء كما احتجب على أهل الأرض، و إن أهل الملإ الأعلى ليطلبونه كما تطلبونه أنتم، و أنه ما حل في شيء و لا غاب عن شيء..

   و هذه المعاني إنما هي أذواق لا تدرك بالعقل، و لا بنقل الأوراق، و إنما تدرك بصحبة أهل الأذواق، فسلم و لا تنتقد، إن لم تر الهلال فسلم، لأناس رأوه بالأبصار، ثم قسم الناس في شهود الحق على ثلاثة أقسام: عموم و خصوص و خصوص الخصوص، فقــال:

 

 فمن رأى الكون و لم يشهده عنده أو قبله أو بعده فقد أعوزه وجود الأنوار،

 و حجبت عنه شموس المعارف بسحب الآثار

   فأهل مقام البقاء يشهدون الحق بمجرد وقوع بصرهم على الكون، فهم يثبتون الأثر بالله، لا يشهدون بسواه، إلا أنهم لكمالهم يثبتون الواسطة و الموسوطة، فهم يشهدون الحق بمجرد شهود الواسطة أو عندها بلا تقديم و لا تأخير و لا ظرفية و لا مظروف،

مذ عرفت الإله لم أر غيره
 

و كذا الغير عندنا ممنوع
  

       و قال الشيخ مولاي عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه لأبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه: يا أبا الحسن، حدد بصر الإيمان تجد الله في كل شيء، و عند كل شيء، و مع كل شيء، و قبل كل شيء، و بعد كل شيء، و فوق كل شيء، و تحت كل شيء، و قريبا من كل شيء، و محيطا بكل شيء، بقرب هو وصفه، و حيطة هي نعته، و عد عن الظرفية و الحدود، و عن الأماكن و الجهات، و عن الصحبة و القرب بالمسافات، و عن الدور بالمخلوقات، و امحق الكل بوصفه الأول الآخر و الظاهر الباطن، و هو  هو  هو ، كان الله و لا شيء معه، و هو الآن على ما عليه كان اهـ.

   و قال بعضهم: ما رأيت شيئا إلا رأيت الله فيه، و لم أره حديثا، و إنما هو من قول بعض العارفين، فأهل السير من المريدين يشهدون الكون، ثم يشهدون المكون عنده و بأثره، فيمحق الكون من نظرهم بمجرد نظرهم إليه، و هذا حال المستشرفين، و أهل مقام الفناء يشهدون الحق بل شهود الخلق بمعنى أنهم لا يرون الخلق أصلا، إذ لا ثبوت له عندهم، لأنهم لسكرتهم غائبون عن الواسطة، فانون عن الحكمة، غرقى في بحر الأنوار، مطموس عليهم الآثار، و في هذا المقام قال بعضهم: ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله، و أهل الحجاب من أهل الدليل و البرهان، إنما يشهدون الكون، و هذا لعامة المسلمين من أهل اليمين، قد أعوزهم، أي فاتهم وجود الأنوار، و منعوا منها، و حجبت عنهم شمس المعارف بسحب الآثار بعد طلوعها و إشراق نورها، لكن لا بد للشمس من سحاب، و للحسناء من نقاب، و لله در القائل:

و ما احتجبت إلا برفع حجابـها

و من عجب أن الظهور تستــر

و قال آ خـــر :

لقد ظهرت فلا تخفى على أحــد

إلا على أكمه لا يبصـر القمــر

لكن بطنت بما أظهـرت محتجـبا

و كيف يعرف من بالعزة استتــرا  

 

مما يدلك على وجود قهره احتجابه تعالى في حال ظهوره

 

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire