منعك ألا تدعي ما ليس لك من المخلوقين، أفيبيح لك أن تدعي وصفه و هو رب العالمين.

   قلـت: الحق تعالى غيور، فلا يحب لعبده أن يفشي سر خصوصيته، و لا يرضى لعبده أن يشاركه في أوصاف ربوبيته، فمن غيرته تعالى أن ستر سر الخصوصية بظهور وصف البشرية، و لولا ذلك لكان سر الربوبية مبتذلا ظاهرا، و ذلك مناقض لحكمته، و كيف و هو يقول: (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) الأنعام/83، و من غيرته تعالى أن اختص بأوصاف الربوبية و نهانا عن إظهارها، و التحلي بها حالا أو مقالا، و ذلك كاتصاف العبد بالعز و العظمة و الكبر و طلب الرئاسة و العلو، أو ادعاء ذلك بالمقال، فإن فعل شيئا من ذلك استحق من الله الطرد و النكال، ففي الحديث القدسي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم:" يقول الله تبارك و تعالى، الكبرياء ردائي و العظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما قصمته " و قال صلى الله عليه و سلم: " لا أحد أغير من الله، فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها و ما بطن "..

   و في البخاري قصة سيدنا موسى عليه السلام، أنه خطب على الناس خطبة ذرفت منها العيون، فقال إليه رجل فقال له: هل تعلم أحدا أعلم منك، فقال:لا، فعتب عليه إذ لم يرد العلم إليه، فقال له بل عبدنا خضر، و هو أعلم منك..

   فكان من شأنهما ما قص الله في كتابه، فانظر كيف أدبه بطلب غيره حتى صار تلميذا له بأمره، و ينهاه بقوة وصوله من عظم قدره و جلالة منصبه، و ما ذلك إلا لإظهار شيء من الحرية، فمن تواضع دون قدره رفعه الله فوق قدره..

   و من غيرته تعالى أيضا، أن حرم الفواحش ما ظهر منها و ما بطن، و الفواحش كل ما فحش قبحه و عظم جرمه كالزنا و الغضب و السرقة و التعدي و أكل أموال اليتامى و غير ذلك من حقوق العباد..

   فإذا كان منعك أن تدعي ما ليس لك مما هو للمخلوقين من العرض الفاني، فكيف يبيح لك أن تدعي وصفه من العزة و الكبرياء و هو رب العالمين، فإذا ادعيت ما ليس لك سلبك ما ملكك، و إذا تحققت بوصفك منحك ما لم يكن عندك، و أتاك ما لم يؤت أحدا من العالمين، فكلما نزلت بنفسك أرضا أرضا سما قلبك سماء سماء، و قد تقدم هذا المعنى في الخمول، و الله تعالى أعلــم.

   و اعلم رحمك الله، و وفقك للتسلي لأوليائه، أن الحرية إذا تحققت في الباطن لا بد من رشحات تظهر على الظاهر، فكل إناء بالذي فيه يرشح، و صاحب الكنز لا بد أن يظهر عليه السرور، و صاحب الغنى لا يخلو من بهجة و حبور، و كما قال الشاعــر:

و مهما تكن عند امرئ من خليقـة    *****   و إن خالها تخفى على الناس تعلــــم

و لذلك تجد أهل الباطن رضي الله عنهم جلهم أقوياء في الظاهر، فربما تصدر منهم مقالات، تستخرجها القدرة منهم، فيضن الجاهل بحالهم أن ذلك دعوى و ظهور، و ليس كذلك، و إنما ذلك رشحات من قوة الباطن، لا قدرة لهم على إمساكها، منها ما يكون تحدثا بالنعم، و منها ما يكون نصحا للعباد ليعرفوا حالهم، فينتفعون بهم في طريق الإرشاد، و من هذا الأمر رفضهم كثير من أهل الظاهر، المتعمقون في العبادة، أو المتجمدون في ظاهر الشريعة، أو من لم تطل صحبته معهم في الطريقة و إن كان كاملا..

   و من ذلك ما وقع للشيخ زروق رضي الله عنه مع أبي المواهب التونسي رضي الله عنه حين ظهرت عليه آثار القوة الباطنية حتى قال فيه الشيخ زروق: دعواه أكبر من قدمــه..

   و ليس كذلك، فإن الشيخ أبا المواهب عظيم الشأن راسخ القدم في العرفان، أخذ عن أبي عثمان المغربي، و كان يقول: لبست خرقة التصوف من رسول الله صلى الله عليه و سلم، و له شرح حسن على الحكم، إلا أنه لم يكمل، و له كلام رائق نظما و نثرا، و من نظمه رضي الله عنه:

من فاته منك وصل حظه الندم

و  من تكن همه تسمو به  الهمم

و ناظر في سوى معناك حق له

 يقتص من جفنه بالدمع و هـو دم

و السمع إن جال فيه من  يحدثه

سوى حديثك أمسى و قره  الصمم

في كل جارحة عين أراك  بها

مني و في كل عضو  بالثناء  فــم

فإذا تكلمت لم أنطق  بغيركم

و كل قلبي مشغوف  بحبكـــم

أخذتم الروح مني في  ملاطفة

فلست أعرف غيرا مذ  عرفتكــم

نسيت كل طريق كنت  أعرفها

إلا طريقا تؤديني  لربعكــــم

فما المنازل لولا أن تحل  بها

و ما الديار و ما الأطلال و الخيـم

لولاك ما شاقني ربع و لا طلل

و لا سعت بي إلى نحو الحمى قـدم

   و أطال الشعراني في ترجمته في الطبقات بما يدل على كمال خصوصيته و تمام ولايته، و ما حمل الشيخ زروق على مقالته تلك إلا القوة التي صدرت من أبي المواهب، مع كونه لم تطل صحبته معه مع ما صدر منه في جانب الشيخ ابن عباد رضي الله عنهم، و الله تعالى أعلــم..

   و هذا الأمر الذي ذكرنا من القوة التي في العارفين لا يجهله إلا من لم يبلغ مقامهم، و حسب من لم يبلغ مقامهم التسليم، و سر هذه القوة التي ظهرت في العارفين هو من جهة الروح، و ذلك أن الروح جاءت من عالم العز و القوة، فلما ركبت في هذا البدن حجبت و قهرت، فأرادت الرجوع إلى أصلها، فطلبته بالعز الأصلي و القوة الأصلية، فمنعت منه، و أتت من كوة الذل و الافتقار فخرقت عوائد نفسها، و انخرقت لها حينئذ الحجب فرجعت إلى أصلها، فلما رجعت إلى أصلها اتصفت بالقوة التي كانت لها، فأمرت أن تجعل ذلك في باطنها، ففعلت، لكن ربما رشح شيء من ذلك على الظاهر غلبة، و لذلك ذكر الشيخ خرق العوائد بأثر ذكر التحقق بالعبودية فقــال:

 

كيف تخرق لك العوائد؟..

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire