إذا أراد أن يظهر فضله عليك خلق و نسب إليك، لا نهاية لمذامك إن أرجعك إليك، و لا تفرغ مدائحك إن أظهر جوده عليك، فكن بأوصاف ربوبيته متعلقا و بأوصاف عبوديتك متحققا.

إذا أراد أن يظهر فظله عليــك خلق فيـك و نسب إليــك

   قلـت: الحق تعالى فاعل بالمشيئة و الاختيار، (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) الأنبياء/23 ، أي لا يسأل عما يفعل حقيقة و هم يسألون شريعة، ثم إن الحق سبحانه و تعالى قسم عباده على ثلاثة أقسام:

   قسم أعده للإنتقام، فأظهر فيهم اسمه المنتقم، و اسمه القهار، أجرى عليهم صورة العصيان بحكمته و نسبها إليهم بعدله و قهره، و لو شاء ربك ما أشركوا، فقامت الحجة عليهم باعتبار النسبة و إظهار الحكمة، و ما ربك بظلام للعبيد، (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) النحل/33..

   و قسم أعدهم الله للحلم، ليظهر فيهم اسمه الحليم، و اسمه الرحيم، أجرى عليهم العصيان و حلاهم بالإيمان، فاستحقوا العقوبة على العصيان، ثم إن الحق تعالى حلم عليهم، و عفا عنهم و أدخلهم الجنان..

   و قســم أعدهم الله للكرم ليظهر فيهم اسمه الكريم، و اسمه الرحيم، خلق فيهم الطاعة و الإحسان، و حلاهم بالإسلام و الإيمان، و ربما زادهم التحلي بالإحسان، فأدخلهم فسيح الجنان، و متعهم بالنظر إلى وجه الرحمن..

   فإذا أراد الله أن يلحقك بهؤلاء السادات، هيأك لأنواع الطاعات، و خلق فيك القرة على فعل الخيرات، ثم نسب إليك ذلك الفعل فقــال: يا عبدي فعلت كذا و كذا من الخير، فأنا أجزيك عليه، ادخل الجنة برحمتي، و ترق فيها بعملك، فمقامك حيث انتهى عملك..

   قال تعالى: (كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) الإسراء/21 و قال تعالى: (ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) النحل/32..

   فينبغي لك أيها الإنسان، أن تتأدب مع الملك الديان، فلا تنسب إليه النقص و العصيان، و إنما أغوتك نفسك و الشيطان، قال تعالى: (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) لقمان/33 أي الشيطان، فما كان من الكمال، فانسبه إلى الكبير المتعال، و ما كان من النقصان، فامسحه في منديل النفس و الشيطان..

   قال سهل بن عبد الله رضي الله عنه: إذا عمل العبد حسنة و قال: يا رب بفضلك استعملت، و أنت أعنت، و أنت سهلت، شكر الله ذلك له و قال: يا عبدي، بل أنت أطعت و أنت تقربت؛ و إذا نظر إلى نفسه و قال أنا عملت، و أنا أطعت و أنا تقربت، أعرض الله عنه و قال له، يا عبدي: أنا وفقت و أنا أعنت و أنا سهلت، و إذا عمل سيئة و قال يا رب أنت قدرت و أنت قضيت و أنت حكمت، غضب المولى جلت قدرته عليه، و قال يا عبدي، بل أنت أسأت، و أنت جهلت و أنت عصيت، و إذا قال يا رب، أنا ظلمت، و أنا أسأت، و أنا جهلت، أقبل المولى جلت قدرته عليه و قال يا عبدي، أنا قضيت و أنا قدرت و قد غفرت و قد حلمت و قد سترت /.

   ثم أن هذه النسبة التي نسب الله لعبده بما خلق فيه بها يستحق المدح و الذم، فإذا خلق فيك الطاعة و نسبها إليه استحق المدح بلسان الشرع، و إذا أجرى عليه المعصية و قضاها عليه استحق الذم بلسان الشرع أيضل كما أشار إلى ذلك بقوله:

 

لا نهايــة لمذامك إن أرجعك إليـك، و لا تفرغ مدائحك إن أظهر جوده عليــك

   قلـت: إذا أراد الله إهانة عبد و إذلاله رده إلى نفسه و هواه، فأحيل عليها و وكل إليها، فيوليه ما تولى، فإذا استولى عليه الهوى أعماه و أصمه و في مهاوي الردى أسقطه كما قال الشاعر:

ترك يومـا نفسك و هواهــا     ***      سعى لهـا في رداهـــــا

   وقال البرعي رحمه الله:

لا تتبع النفس في هـواهــــا      ***      إن اتباع الهوى هــــوان

   و إذا أراد الله إعزاز عبده و عنايته، أظهر عليه جوده و كرمه، فتولاه و حفظه، و لم يتركه مع نفسه و هواه طرفة عين و لا أقل من ذلك، فلا نهاية لمذامك أيها الإنسان إن ردك إلى نفسك و حكمها فيك، و تركك مع هواك، لأن ذلك من علامة الإهمال، و سقوطك من عين الكبير المتعال، و العياذ بالله من كل خسران و وبال..

   و لا تفرغ مدائحك إن أظهر جوده عليك، فتولاك بحفظه و رعاك بعنايته، و حجزك عن نفسك، و حال بينك و بين تدبيرك و حدسك، و من دعائه عليه السلام: إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف و عورة و ذنب و خطيئة، و إني لا أثق إلا برحمتك..

   و الحاصل، أنك إن كنت بربك تكمل عزك و لا يتناهى مدحك، و إن كنت بنفسك تكامل ذلك و لا يتناهى ذمك كما قال الشاعر:

إن كنا به  تهنا  دلالا

على كل الحرائر و العبيد

و إن كنا بنا عدنا إلينا

فعطل  ذلنا  ذل  اليهود

   أو تقـول: من أهمله الله و تركه مع نفسه و هواه لا نهاية لمذامه و قبائحه، فإن للنفس من النقائص ما لله من الكمالات، و من تولاه الله و أظهر جوده عليه و لم يتركه مع نفسه، و أزعجه عن حظه، و حال بينه و بين هواه، فلا نهاية لمدائحه، إذ كمالات الله لا نهاية لها، و ما هنا إلا مظاهره، فكما لا نهاية لجلاله كذلك لا نهاية لجماله، و الله تعالى أعلــم..

   هـــذا آخر الباب الثاني عشر، و حاصلها تعظيم الأوراد و التأهب لورود الإمداد، و تصفية البواطن من الأكدار لتشرق عليها شموس الأنوار، و هي شموس العرفان، فيفنى العارف عن التدبير و الاختيار، فكل يوم ينظر ما يفعل الواحد القهار، فتأنس حينئذ بكل شيء، و يتأدب مع كل شيء، و يعظم كل شيء، و لا يستوحش من شيء لمعرفته في كل شيء..

   فيستأنس في هذه الدار بالنظر إلى الله في حجاب صفاته، و هي مظاهر مكوناته، و سيكشف له في تلك الدار عن كمال ذاته من غير حجاب صفاته، و ذلك أن لما علم أنه لا يصبره عنه أشهده ما برز منه، و لما علم أن من عباده من لا يقدر أن يشهده في مكوناته أشغله بخدمته، و علم أنه أيضا إن دام على عمل واحد حصل له الملل، لون له الطاعات و العمل، و علم ما في عبده من الشره فحجرها عليه في بعض الأوقات، ليكون همه إقامة الصلاة لا وجود الصلاة، ثم ذكر ثمراتها و نتائجها، و نهاك عن طلب العوض عليها، لكونك لست عاملا لها، و إنما هو فضل الله عليك، خلق فيك القوة و نسبها إليك، فإن ردك إلى نفسك و تركك مع هواك لا تتناهى مذامك، و إن أخذك عن نفسك و تولاك بجوده و فضله لا تفرغ مدائحك، حيث صرت وليا من أوليائه، و صفيا من أصفيائه، جعلنا الله منهم بجوده و كرمه آميــــن /.

 

 

كــن بأوصــاف ربوبيتــه متعلقـا، و بأوصاف عبوديتــه متحققــا

   قلـت: أوصاف الربوبية هي العز، و الكبرياء و العظمة و الغنى و القدرة و العلـم، و غير ذلك من الكمالات التي لا نهاية لها، و أوصاف العبودية هي الفقر و العجز و الضعف و الجهل، و غير ذلك مما يناسب العبد من النقائص..

   و كيفية التعلق بأوصاف الحق هو أن تلتجئ في أمورك إليه، و تعتمد في حوائجك عليه، و ترفض كلما سواه، و لا ترى في الوجود إلا إياه، فإذا نظرت إلى عزه و كبريائه و عظمته تعززت به و لم تتعزز بغيره، و صغر في عينيك دونه كل شيء، و إذا نظرت إلى وصفه تعالى بالغنى، تعلقت بغناه و استغنيت عمن سواه و لم تفتقر إلى شيء، و استغنيت به عن كل شيء، و إذا نظرت إلى وصفه تعالى بالقدرة و القوة، و لم تلتجئ في حال عجزك و ضعفك إلا إلى قدرته و قوته، و استضعفت كل شيء، و إذا نظرت إلى سعة علمه و إحاطته، اكتفيت بعلمه و استغنيت عن طلبه، و قلت بلسان الحال: علمــه بحالي يغني عن سؤالـي، و هكذا في جميع الأوصاف و الأسماء، فكلها تصلح للتعلق و التخلق و التحقق..

   و كيفية التخلق، بأوصافه تعالى أن تكون في باطنك عزيزا قويا به، عظيما كبيرا عنده قويا في دينه و في معرفته، عالما به و بأحكامه، و هكذا، و حاصلها استعمال الحرية في الباطن، و العبودية في الظاهر..

   و كيفية التحقق بأسماء الله تعالى، أن تكون تلك المعاني فيك راسخة متمكنة، متحققا فيك وجودها، فالتخلق مجاهدة، و التحقق مشاهدة، أي يكون وجودها غريزيا..

   و كيفية التخلق بأوصاف العبودية، هو التحقق بالذل في الظاهر حتى يصير الذل عندك حرفة و طبيعة لا تأنف منه، بل تستحليه و تغبط به، و كذلك الفقر و الضعف و الجهل و سائر أوصاف العبودية، تتحقق بوجودها في ظاهرك حتى يكون ذلك شرفا عندك، و كان شيخ شيوخنا سيدي علي رضي الله عنه يقول: أهل الظاهر يتنافسون في العلو، أيهم يكون أعلى من الآخر، و أهل الباطن يتنافسون في الحنو أيهم يكون أحنى من الآخــر/.

   و كان الشيخ رزوق رضي الله عنه يقول: أوصاف الربوبية أربعة تقابلها أربعة، هي أوصاف العبودية، إن وجد واحدها وجد جميعها، و وجود المقابل ملزوم بوجود مقابله..

   فمن استغنى بالله افتقر إليه، و من افتقر إلى الله استغنى به، و من تعزز بالله ذل له، و من ذل له تعزز به، و من شاهد قدرته رأى عجز نفسه، و من رأى عجز نفسه شاهد قوة مولاه، و من نظر ضعف نفسه رأى قوة مولاه، و من رأى قوته علم ضعف نفسه، لكــن إن كان البساط النظر لأوصافك، فأنت الفقير إلى الله، و إن كان البساط النظر إلى أوصافه فأنت الغني بالله، و هما يتعاقبان على العارف، فتارة يغلب عليه الغنى بالله، فتظهر عليه آثار العناية، و تارة يظهر آثار الفقر إلى الله فليلتزم الرعاية، فحين غلب الغنى بالله على حبيب الله أطعم ألفا من صاع، و حين غلب عليه الفقر إلى الله شد الحجر على بطنه من الجوع، فافهـــم /.

   قلـت: و التحقيق قدمناه من أن التعلق بأوصاف الربوبية يكون في الباطن، و التحقق بأوصاف العبودية يكون في الظاهر، فالحرية في الباطن على الدوام، و العبودية في الظاهر على الدوام، فحرية الباطن في شهود أوصاف الربوبية، و هو معنى التعلق بها، لكن إن كان مجاهدة فهو تعلق و إن كان طبيعة و غريزة فهو تحقق..

   أو تقــول: إن كان مقاما فهو تعلق، و إن كان حالا فهو تحقق، و عبودية الظاهر في شهود أوصاف العبودية قياما بالحكمة و سترا للقدرة، و الحاصـــل، أن عظمة الربوبية ظهرت في مظاهر العبودية، فمن نظر للعظمة صرفا تحقق بعظمة الربوبية، و من نظر لظاهر المظهر تحقق بأوصاف العبودية في الظاهر، فيعطي كل ذي حق حقه، فالجمع في باطنه مشهود، و الفرق في ظاهره موجود و الله تعالى أعلــم..

   فإذا أظهر أوصاف الربوبية فقد تعدى طوره و جهل قدره، فلا بد أن تؤدبه القدرة و إلى ذلك أشار بقوله:

 

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire