الصلاة محل المناجاة، و معدن المصفاة، تتسع فيها ميادين الأسرار، و تشرق فيها شوارق الأنوار، علم وجود الضعف منك فقلل أعدادها، و علم احتياجك إلى فضله فكثر إمدادها.

الصــلاة مطهــرة للقـلـوب، و استفتــاح لبـاب الغيــوب، الصلاة محل المنــاجـاة، و معــدن المصفــاة، فيهــا تتسـع مياديــن الأسـرار، و تشرق فيها شـوارق الأنـوار

قلت: إنما كانت الصلاة مطهرة للقلوب من المساوئ و العيوب لما فيها من الخضوع و الانكسار، و الذل و الافتقار، و التذلل و الاضطرار، فإذا حضر القلب لهيبة الجلال طهر من سائر العلل، لأن طلب العلو و الرفعة هو أصل العلل و عنصرها، و من شأن النفس و طبيعتها طلب العلو و الاستكبار و التعزز و الافتخار، لأنها جاءت من عالم العز، فلا ترضى إلا بالعز، و إلى هذا أشار شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن المجذوب بقوله:

من أيـن جيـت يا ذي الــروح *** ألهـا بمــا روحــانيـــا

مقامهـا بســـاط العــــز *** أحوالهــا ربــانيـــــا

فلما ركبت في هذا القلب الجسماني ردتها القهرية إلى العبودية، و جعلتها لها باب للوصول إلى حضرة الربوبية، فلا يطمع لها في الرجوع إلى أصلها إلا بانكسارها و ذلها..

و لذلك قال الشيخ عبد القادر الجيلالي رضي الله عنه: أتيت الأبواب كلها فوجدت عليها ازدحاما، فأتيت باب الذل و الانكسار فوجدته خاليا، فدخلت منه، و قلــت: هلمــوا إلى ربكم، هكذا سمعته من أشياخنا، فإذا انكسرت و ذلت رجعت إلى أصلها و وصلت، و إذا تعززت و استكبرت حجبت و طردت، و إذا طردت بعدت، و كلما بعدت عن الحضرة الربانية استحكمت فيها الشهوات الجسمانية و الأخلاق الشيطانية، فاتصفت حينئذ بكل خلق دني و بعدت عن كل خلق سنـي، فإذا أراد الله تعالى أن يرحمها بالقرب من جنابه، و الوقوف ببابه، ألهمها الصلاة و حببها إليها، حتى إذا تطهرت من الذنوب، و محيت عنها المساوئ و العيوب قربت من حضرة الحبيب و مناجاة القريب، فقرعت الباب و طلبت رفع الحجاب و هذا معنى قولــه: و استفتاح لباب الغيوب،

و هي النتيجة الثانية من نتائج الصلاة، قلــت: الرماد بالغيوب أسرار الملكوت و أسرار الجبروت، و إنما كانت الصلاة استفتاحا لباب الغيوب لما اشتملت عليه من تطهير الظاهر و الباطن، قال محمد بن علي الترمذي الحكيم رضي الله عنه:

دعا الله الموحدين إلى هذه الصلوات الخمس رحمة منه عليهم، و هيأ لهم فيها أنواع الضيافة لينال العبد من كل قول و فعل شيئا من عطاياه، فالأفعال كالأطعمة و الأقوال كالشربة، و هي عرش الموحدين، هيأها رب العالمين لأهل رحمته في كل يوم خمس مرات حتى لا يبقى عليهم دنس من الغيار /.

فإذا تطهر الظاهر بالطهارة الحسية، و الباطن بالطهارة المعنوية استحق الدخول إلى الحضرة القدسية، فأول ما يتحف به قربه من الباب، و سماع خطاب الأحباب من وراء الحجاب، فيتمتع بمناجاة الأحباب، و لذيذ الخطاب و هو معنى قولــه:

الصلاة محل المناجاة، و هي النتيجة الثالثة..

قلـت: المناجاة هي المساررة و المكالمة مع الأحباب، فمناجاة العبد ربه بالتلاوة و الأذكار، و مناجاة الرب لعبده بالتفهم و الفتح و رفع الأستار، و في الحديث، المصلي يناجي ربه، و قال أيضا عليه السلام: قسمت الصلاة بيني و بين عبدي و لعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال تعالى حمدني عبدي، و إذا قال العبد: الرحمن الرحيم، قال تعالى: مجدني عبدي، فإذا قال العبد: ملك يوم الديـن، قال تعالى: فوض إلي عبدي، فإذا قال: إياك نعبد و إياك نستعين، قال تعالى: هذا بيني و بين عبدي، فإذا قال:اهدنا الصراط المستقيم، قال تعالى: هذا لعبدي و لعبدي ما سأل(الحديث)،

فلا يزال المصلي يناجي ربه و يطلب قربه حتى تتمكن المحبة من القلب و الإقبال من الرب، فتصفو المحبة من كدر الجفا و يتصل النحب مع حبيبه في محل الصفا، و هو معنى قوله:

 

و معدن المصفاة ، و هي النتيجة الرابعة..

قلـت: المعدن هو محل الذهب و الفضة، استعير هنا لصفاء القلوب و الأرواح، لتصفيتها من لوث صلصال الأشباح، فالمصفاة خلوص المناجاة من تشويش الحس، و كدر الهواجس، فهي أرق و أصفى من المناجاة، كما قال ابن الفارض رضي الله عنه:

و لقد خلوت مع الحبيب و بيننا

سر أرق من النسيم إذا سرى

و هذه مصفاة العبد لربه و مصفاة الرب لعبده بالإقبال عليه حتى لا يدعه لغيره، و في الخبر أن العبد إذا قام إلى الصلاة رفع الله الحجاب بينه و بينه و واجهه بوجهه، و قامت الملائكة من لدن منكبيه يصلون بصلاته /.

فإذا تمت التصفية و عظمت المحبة، و كثر العطش و ظهر الدهش، استحقت الروح رفع الحجاب و فتح الباب، فتدخل إلى حضرة الأحباب، و يرفع بينها و بينهم الحجاب، فتخرج من ضيق الأشباح إلى فضاء عالم الأرواح، أو من ضيق الملك إلى سعة عالم الملكوت، و هو معنى قولــه:

 

فيهــا تتسـع مياديــن الأسرار، و هي النتيجة الخامسة..

قلـت: الميادين جمع ميدان، و هو مجال الخيل، استعير هنا لفضاء عالم الملكوت، فإذا تنزهت الروح في عالم الملكوت، و جالت بفكرتها في سعة أنوارها، أشرقت عليها أنوار سنا الجبروت، و هو معنى قوله:

و تشرق فيها شوارق الأنوار، و هي النتيجة السادسة..

قلـت: أراد بالأسرار أسرار الذات و هو لأهل الفناء، و بالأنوار أنوار الصفات و هو لأهل البقاء، و الله تعالى أعلم..

قال أبو طالب، حدثنا أن المؤمن إذا توضأ للصلاة تباعدت عنه الشياطين في أقطار الأرضين خوفا منه لأنه تأهب للدخول على الملك، فإذا كبر حجب عنه إبليس و ضرب بينه و بينه بسرادق، لا ينظر إليه، و واجهه الجبار بوجهه، فإذا قال: الله أكبر، اطلع الملك في قلبه، فإذا لم يكن في قلبه أكبر من الله، يقول الملك: صدقت، الله أكبر في قلبك كما تقول، فيتشعشع في قلبه نور يلحق ملكوت العرش، فينكشف له بذلك ملكوت السماوات و الأرض، و يكتب له حشود ذلك النور حسنات، قال: و إن الغافل الجاهل إذا قام إلى الصلاة استوحشته الشياطين كما تستوحش الذباب على نقطة العسل، فإذا كبر اطلع الملك في قلبه، فإذا كل شيء في قلبه أكبر من الله عنده، فيقول الملك كذبت، ليس الله في قلبك كما تقول، فيثور في قلبه دخان يلحق بعنان السماء، فيكون حجابا لقلبه عن الملكوت، قال: فيرد ذلك الحجاب صلاته، و تلتقم الشياطين قلبه، و لا تزال تنفخ فيه و تنفث و توسوس و تزين له حتى ينصرف من صلاته، و لا يعقل ما فعل..

ثم ذكر حكمة حصرها في عدد معلوم و هي خمســة فقــال:

 

علم وجود الضعـف منك فقلل أعدادهـا، و علم احتياجك إلى فضلـه فكثر إمدادهــا

علم وجود الضعف منك فقلل أعدادها، هي خمس بعد أن كانت خمسين، فمن لطفه سبحانه بك أيها الإنسان قلل أعدادها مع سعة الزمان..

فجعل عليك صلاة في أول نهاره شكرا لما أظهره لك من باهر أنواره، و ليكون نهوضك إليه في أول قيامك جبرا لما حصل من غفلتك في طول منامك..

و جعل عليك صلاة في وسط نهاره إخمادا عنك لما أظهره في ذلك الوقت من وقود ناره..

و جعل عليك صلاة قرب انصراف النهار ليكون شاهدا لك بوجود طاعتك عند الملك الغفار، و لتشهد عليك ملائكة الرحمن بالصلاة عند الملك الديان..

و أوجب عليك صلاة في أول زمان الليل استفتاحا لذلك الزمان بوجود طاعتك، كما استفتحت أول نهارك، و استحفاظا لما يتوقع من عجائب الليل..

ثم لما أردت أن تنام عن سيدك، و تغفل عن ربك، و تتمتع بفراشك، أمرك أن تودعه بحضورك معه، و أن يكون آخر عهدك به وجود طاعتك، فهذا كله جذب منه لك لحضرته، و استخراج منك لشكر منته، عجب ربك من قوم يساقون إلى الجنة بالسلاسل..

و حين قلل أعدادها، لما علم احتياجك إلى منته كثر إمدادها و إليه أشار بقوله:

و علم احتياجك إلى فضله فكثر إمدادها:

المراد بالإمداد الجزاء الذي رتب عليها، فجعل كل صلاة بعشر، فهي خمس في الحس و خمسون في المعنى، أي الثواب، و إذا كانت في الجماعة كانت كل واحدة بخمس و عشرين و كل درجة بعشر، فكان عدد كل صلاة في الجماعة مائتين و خمسين لكل صلاة و الله ذو الفضل العظيم..

و تتفاوت الدرجة أيضا بكثرة الجماعة و كمالها و بقدر الحضور و الخشوع و الغيبة و رفع الستور، (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )السجدة/17، و تتفاوت أيضا بقدر البقاع، كبيت الله الحرام و المسجد النبوي، و بيت المقدس، و بقدر رتبة الإمام، فمن صلى خلف مغفور له غفر له، و الله تعالى أعلــم..

 

الصدق شرط في الطلب

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire