من علامة الاعتماد على العمل، نقصان الرجاء عند نزول الزلل.

الاعتماد على الشيء هو الاستناد عليه و الركون إليه، و العمل حركة الجسم أو القلب، فإن تحرك بما يوافق الشريعة سمي طاعـة، و إن تحرك بما يخالف الشريعة سمي معصية، و الأعمال عند أهل الفن على ثلاثة أقسام:

   عمل بالشريعة، و عمل بالطريقة، و عمل بالحقيقة .

   أو تقول : عمل الإسلام و عمل الإيمان و عمل الإحسان .

   أو تقول : عمل العبادة و عمل العبودية و عمل العبودة أي الحرية .

   أو تقول : عمل أهل البداية ، و عمل أهل الوسط ، و عمل أهل النهاية .

   فالشريعة  أن تعبده ، و الطريقة أن تقصده ، و الحقيقة أن تشهده ..

   أو تقول : الشريعة لإصلاح الظواهر ، و الطريقة لإصلاح الضمائر ، و الحقيقة لإصلاح السرائر ..

   و إصلاح الجوارح بثلاثة أمور : التقوى و التربية و الاستقامة ..

   و إصلاح القلوب بثلاثة أمور: الإخلاص و الصدق و الطمأنينة ، و إصلاح السرائر بثلاثة أمور : المراقبة و المشاهدة و المعرفة ..

   أو تقول: إصلاح الظواهر بالاجتناب النواهي و امتثال الأوامر، و إصلاح الضمائر بالتخلي عن الرذائل و التحلي بأنواع الفضائل، و إصلاح السرائر، و هي هنا الأرواح بذلها و انكسارها حتى تتهذب، و ترتاض الأدب و التواضع، و حسن الخلق، و اعلم أن الكلام هنا إنما هو في الأعمال التي توجب تصفية الجوارح أو القلوب أو الأرواح ، و هي ما تقدم تعيينها لكل قسم .

   و أما العلوم و المعارف، فإنما هي ثمرات التصفية و التطهير، فإذا تطهرت الأسرار ملئت بالعلوم و المعارف و الأنوار، و لا يصح الانتقال من مقام حتى يحقق ما قبله، فمن أشرقت بدايته أشرقت نهايته، فلا ينتقل إلى عمل الطريقة حتى يحقق عمل الشريعة و ترتاض جوارحه معها بأن يحقق التوبة بشروطها، و يحقق التقوى بأركانها، و يحقق الاستقامة بأركانها، و هي متابعة الرسول صلى الله عليه و سلم في أقواله و أفعاله و أحواله، فإذا تزكى الظاهر و تنور بالشريعة، انتقل من عمل الشريعة الظاهرة إلى عمل الطريقة الباطنة، و هي التصفية من أوصاف البشرية على ما يأتي، فإذا تطهر من أوصاف البشرية تحلى بأوصاف الروحانية، و هي الأدب مع الله في تجلياته التي هي مظاهره، فحينئذ ترتاح الجوارح من التعب، و لا يبقى إلا حسن الأدب .

قال بعض المحققين: من بلغ إلى حقيقة الإسلام لم يقدر أن يفتر عن العمل، و من بلغ إلى حقيقة الإيمان لم يقدر أن يلتفت إلى العمل بسوى الله، و من بلغ إلى حقيقة الإحسان لم يقدر أن يلتفت إلى أحد سوى الله .

و لا يعتمد المريد في سلوك هذه المقامات على نفسه و على عمله ، و لا على حوله و قوته ، و إنما يعتمد على فضل ربه ، و توفيقه و هدايته و تسديده ، قال تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) القصص/68، و قال تعالى : (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ  إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) هود/118 ، و قال صلى الله عليه و سلم: "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله "، قالوا و لا أنت يا رسول الله ، قال : "و لا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته "،

فالاعتماد على النفوس من علامة الشقاء و البؤس، و الاعتماد على الأعمال من عدم التحقق بالزوال، و الاعتماد على الكرامة و الأحوال من عدم صحبة الرجال، و الاعتماد على الله من تحقق المعرفة بالله .

و علامة الاعتماد على الله، أنه لا ينقص رجاؤه إذا وقع في العصيان، و لا يزيد رجاؤه إذا صدر منه إحسان ..

   أو تقول: لا يعظم خوفه إذا صدرت منه غفلة ، كما لا يزيد رجاؤه إذا وقعت منه يقظة، قد استوى خوفه و رجاؤه على الدوام ، لأن خوفه ناشئ عن شهود الجلال ، و رجاؤه ناشئ عن شهود الجمال ، و جلال الحق و جماله لا يتغيران بزيادة و لا نقصان ، فكذا ما ينشأ عنهما بخلاف المعتمد على الأعمال ، فإذا قل عمله قل رجاؤه ، و إذا كثر عمله كثر رجاؤه لشركه مع ربه ، و تحققه بجهله ، و لو فنى عن نفسه ، و بقي بربه لاستراح من تعبه ، و تحقق بمعرفة ربه ، و لا بد من شيخ كامل يخرجك من تعب نفسك إلى راحتك بشهود ربك ، فالشيخ الكامل هو الذي يريحك من التعب ، لا الذي يدلك على التعب ، فمن دلك على العمل فقد أتعبك ، و من دلك على الدنيا فقد غشك ، و من دلك على الله فقد نصحك كما قال الشيخ ابن مشيش رضي الله عنه .

و الدلالة على الله هي الدلالة على نسيان النفس ، فإذا نسيت نفسك ذكرت ربك ، قال تعالى: (وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) الكهف 23، أي ما سواه، و سبب التعب هو ذكر النفس، و الاعتناء بشؤونها و حظوظها ، و أما من غاب عنها فلا يلقى إلا الراحة.. و أما قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ)  البلد/4 ،أي في تعب ، فهو خاص بأهل الحجاب ، أو تقول خاص بأحياء النفوس ، و أما من مات فقد قال فيه تعالى : (فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ) الواقعة 89 ، أي فروح الوصال و ريحان الجمال و جنة الكمال ، و قال تعالى : (لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ) الحجر 48 ، أي تعب ، و لكن لا تدرك الراحة إلا بعد التعب ، و لا يحصل الظفر إلا بالطلب ، حفت الجنة بالمكاره..

 

 

 أيهـا العاشـق معنى حسننـا   ***   مهرنا غال لمن  يخطبنــا
جسد مضني و روح  في العنـا   ***  و جفون لا تذوق الوسنـا
و فؤاد  ليس فيه  غيرنـــا   ***  و إذا ما شئت أد الثمنــا
فافن إن شئت فناء سرمــدا   ***  فالفنا يدني إلى ذاك الفنــا
و اخلع النعلين إن جئت إلـى  ***  ذلك الحي ففيه قدسنـــا

و عن الكونين كن  منخلعــا  ***   و أزل  ما  بيننا من بينــنا
      و إذا قيل من تهوى  فقـــل  ***   أنا من أهوى و من أهوى أنـا

 

و قال في حل الرموز : ثم اعلم أنك لا تصل إلى منازل القربات حتى تقطع ست عقبات :

العقبة الأولى : فطم الجوارح عن المخالفات الشرعية .

العقبة الثانية : فطم النفس عن المألوفات العادية .

العقبة الثالثة : فطم القلب عن الرعونات البشرية .

العقبة الرابعة : فطم النفس عن الكدورات الطبيعية .

العقبة الخامسة : فطم الروح عن البخورات الحسية .

العقبة السادسة : فطم العقل عن الخيالات الوهمية .

فتشرف من العقبة الأولى على ينابيع الحكم القلبية، و تطلع من العقبة الثانية على أسرار العلوم اللدنية، و تلوح لك في العقبة الثالثة أعلام المناجات الملكوتية، و يلمع لك في العقبة الرابعة أنوار المنازلات القربية، و تطلع لك في العقبة الخامسة أنوار المشاهدات الحبية، و تهبط من العقبة السادسة على رياض الحضرة القدسية، فهناك تغيب بما تشاهده من اللطائف الأنسية و الكثائف الحسية، فإذا أرادك لخصوصيته الاصطفائية سقاك بكأس محبته شربة تزداد بتلك الشربة ظمأ ، و بالذوق شوقا ، و بالقرب طلبا، و بالسكر قلقا . اهـ

المراد منه تتميمٌ أشكل على بعض الفضلاء في قوله تعالى: (ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) النحل 33 ، مع قوله صلى الله عليه و سلم: " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله" الحديث .

و الجواب أن الكتاب و السنة وردا بين شريعة و حقيقة ، أو تقول بين تشريع و تحقيق ، فقد يشرعان في موضع و يحققان في آخر في ذلك الشيء بعينه، و قد يحققان في موضع و يشرعان فيه في آخر، و قد يشرع القرآن في موضع و تحققه السنة، و قد تشرع السنة في موضع و يحققه القرآن، فالرسول عليه الصلاة و السلام مبين لما أنزل الله، قال تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) النحل44 .. فقوله تعالى : (ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) هذا تشريع لأهل الحكمة و هم أهل الشريعة، و قوله صلى الله عليه و سلم : " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله" هذا تحقيق لأهل القدرة ، و هم أهل الحقيقة ، كما أن قوله تعالى: (وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ) الإنسان 30 ، تحقيق ، و قوله صلى الله عليه و سلم : " إذا هم أحدكم بحسنة كتبت له حسنة " تشريع ...

و الحاصل ، أن القرآن تقيده السنة، و السنة يقيدها القرآن، و الواجب على الإنسان أن تكون له عينان ، إحداهما تنظر إلى الحقيقة والأخرى تنظر إلى الشريعة، فإذا كان القرآن قد شرع في موضع فلا بد أن يكون قد حقق في موضع آخر، أو تحققه السنة، و إذا كانت السنة قد شرعت في موضع، فلا بد أن تكون قد حققت له في موضع آخر، أو حققها القرآن، و لا تعارض حينئذ بين الآية و الحديث، و لا إشكال..

   و هناك جواب آخر، و هو أن الله سبحانه و تعالى لما دعا الناس  إلى التوحيد و الطاعة على أنهم لا يدخلون فيه من غير طمع، فوعدهم بالجزاء على العمل، فلما رسخت أقدامهم في الإسلام، أخرجهم صلى الله عليه و سلم من ذلك الحرف و رقاهم إلى إخلاص العبودية، و التحقق بمقام الإخلاص، فقال لهم : " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله " و الله تعالى أعلم .

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire