نبذة في فقه المعاشرة..

نحاول معا أن نطرق بابا من أبواب هذا العلم المعتمد الآن، و هو ما يصلح بين الرجل و المرأة أو بين الزوجة و زوجها، و التي تبذل الدول و المؤسسات و المتخصصون قصارى جهدهم في الإصلاح بين من يؤسس لهذه المجتمعات بالصلاح و التنمية و هو صلاح الرجل و المرأة، و الذي بهما يكون صلاح المجتمع على المدى القريب و المتوسط و البعيد، و إنها في الواقع إن تراعى قواعد البحث عند المتخصصين الغربيين فإن لعمائنا لوم في عدم إرساء هذه القواعد بالرجوع إلى حقائقها، و من قال لنا أن في ظاهر الشرع ما يكفينا، نقول له هذا للمومنين الصادقين و للتابعين المخلصين، أما و إن اختلطت الأمور فلا بد من الرجوع إلى حقيقة الشرع و منابع الحقيقة التي استمدت منه.. و إلا نكون مسبوقين بمن يحقق في الباطل ليبطل علينا الشرائع، و الناظر العادي يرى ما آلت إليه أمور المسلمين، بعدما أتلفت عليهم الحقائق كان من السهل على أعداء الله أن يتلفوا عليهم الشرائع.. و الحال كما تنظرون....

يمكن أن نسمي علم ما بين الرجل و المرأة فقه المعاشرة أو ضوابطها أو حقائقها، نتناول معا هذا الدر الثمين الذي تكالب أعداء الله و وقع فيه اللغط من مثقفينا و حتى من بعض علمائنا الذي هو حقوق المرأة أو واجبات الرجل نحو المرأة أو نحو نفسه.. و أدخل بإيجاز شديد من أسوأ الأبواب التي استغلها أعداء الله و أهملها علماؤنا..

قال تعالى في سورة النساء: (وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ )..

فالذي فهمه بعض العلماء و عمل به المسلمون من هذه الآية، أن المرأة تضرب إذا نشزت أو أرادت النشوز، حتى علا صوت بعض الخطباء في الحج بها قائلا: و اضربوهن ضربا غير مبرح.. و كثير من اجتهد في الجزئيات مما دلت عليه الآية، و فسر الهجر في المضجع بين الأدنى الذي هو الهجر في المضجع الواحد أو الأقصى الذي هو التعدد .. و فسرت الموعظة حسب الأهواء.. مما جعل من النشوز استفحالا، و وجد الوضعيون ثغرات لإرغام الأمم و المؤسسات في الالتزام بالحقوق و الواجبات، و هذا إن دل على شيء فإنما يدل على طعن في أحكام رب الأرض و السماوات التي أساء فهمها و توظيفها الجهلة من العلماء..

هذا حكم الله صدر في إماء الله.. و جاء في كتاب الله و على يد رسول الله.. فكان يجب على الأقل أن يرصد له اختصاصيون في كل زمن و متخصصون في كل مكان، و تحلل الآية كلمة كلمة و آية آية، فإن لم نجد ما يقيم علم الاجتماع و علم السلوك و علم النفس و ما وراء النفس، فذلك بتقصيرنا و عدم فهمنا عن الله و عن كتاب الله...

و حتى و إن كان هذا الاجتماعي أو الاختصاصي غير مسلم، فالحق لا يحتاج إلى من يسنده و الشمس لا تحتاج إلى دليل...

و أما ما جاء في الآية من قوله تعالى: (وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ )..

النشوز في اللغة هو العلو و الرفعة و هنا بالنفس، و هو خصلة ذميمة، و عكسه التواضع، قال صلى الله عليه و سلم: ( من تواضع لله رفعه) فالرفعة بالله هبة لك من الله، و طلبك الرفعة من شدة إعراضك عن الله.. فلا تكون إلا بعد إعجاب المرء بنفسه و منها يكون الكبر و هو شرك جلي..

و أما على حسب الأنوار المحمدية فهو طمس أربع أنوار على الأقل من الأنوار الأصلية التي تؤهل المرأة إلى حقيقة و سلامة المعاشرة، و هذه الأنوار متمكزة في أربع حروف: ن، ش،و،ز.. و هي كما يلي:

الفرح و القوة في الانكماش و نكران الذات في سبيل الحياة الزوجية و الصدق التام..

فهذه الأنوار إن افتقدت من المرأة لا تبقى مؤهلة لأمانة الزوجية و أمانة الأولاد التي خصها الله بها و جعل منها مركزا للبيت و سكنا للزوج و حنانا للأولاد..

و الآية هنا تقول: وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ).. يعني أن الذي يخاف النشوز يعرف ما هو النشوز، و يعرف ضرره و خطورته، و يكون قد نجا منه و يخاف أن لا يسقط فيه أحب الناس إليه و هي زوجته.. و أما ضمير الجمع في تخافون لا يخاطب الأزواج فحسب و إنما ينبه عامة المسلمين ذكرانا و إناثا و يحث خاصتهم من علمائهم و ولاة أمورهم لكي يتنبهوا إلى هذا الداء العضال الذي يصيب الأسرة فيدمرها و يصيب الشعوب فيقضي عليها..

أما الأمة التي لا تعترف بالنشوز و الرجال و النساء الذين لا يعرفون النشوز فليسوا داخلين في حكم هذه الآية، فكم من امرأة نشزت لنشوز زوجها.. و الحق ذكر نشوز الرجل في آية أخرى، قال تعالى: (وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضٗا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يُصۡلِحَا بَيۡنَهُمَا صُلۡحٗاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَيۡرٞۗ )..

أما النساء اللاتي أكرمهن الحق بأزواج يعرفون النشوز و مجتمعات يعرفون النشوز و تعلموا كيف يتخلصوا منه في أنفسهم أولا، و تعرض هؤلاء النساء لهذا الداء النفسي أو المرضي أو الشيطاني، فهن في ذلك على ثلاث مراتب، أو ثلاث فئات، أو ثلاث أصناف..

هذه ثلاث أنواع من العلاجات ذكرها الحق سبحانه و تعالى لثلاث علل متباينة ..

و كل من هذه الفئات و كل من هذه العلل لها علاج خاص.. و لا يجب أن تخلط الأصناف حتى يتبين علاجها، و لا يجب أن تلبس العلاجات حتى يتم التغلب على الداء أو على المشكلة أو المعضلة فيها.. .

1) الصنف الأول تنفع فيه الموعظة فقط، و هذا صنف مؤمن من النساء وقع في حبال الشيطان، سريع التذكر سريع الرجوع.. قال تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوۡاْ إِذَا مَسَّهُمۡ طَٰٓئِفٞ مِّنَ ٱلشَّيۡطَٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبۡصِرُونَ ٢٠١).. وهذا النوع لا يجب أن يستعمل معه غير الموعظة الحسنة والتذكير الجميل بالله.. (هَٰذَا بَصَٰٓئِرُ لِلنَّاسِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّقَوۡمٖ يُوقِنُونَ ٢٠)..

2) الصنف الثاني من الأمراض النسائية قال فيه تعالى: (وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ) ..

الهجر في المضجع هنا حل من النشوز، فقد يكون عقوبة للمرأة و قد يكون رحمة بها.. أما الأول، فسر له المفسرون بين الأدنى و الأقصى كما سبقت إليه الإشارة... .

أما رحمة بها فقليل ما تنبه إليه العقلاء، فقد تكون هذه المرأة لا تقبل الفراش لإعاقة ما، قد تكون عضوية... أو ربما تكون من عارض من الشياطين... أو من أسباب أخرى كثيرة و متعددة، فتجب معالجته بما يليق... و قبل الحصول على الشفاء التام و النهائي يجب الهجر في المضجع.. و هذه الحالة لا تنفع معها موعظة لأن الضرر ثابت بها فيجب رفع الضرر أولا...

و هذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن الحق يبين لنا نوعا من العلوم، و يبين لنا كذلك حتى كيف نتعامل في البحث العلمي.. و هذا ما سنرجع إليه فيما بعد..

3) الصنف الثالث، و قال فيه الحق: (وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ)..

و هذا صنف مريض مرضا عرضيا أو نفسانيا أو شيطانيا لا يمكن أن تنفع معه الموعظة و لا الهجر في المضجع، و العلاج منه لا يكون إلا في الضرب، أو بعبارة أخرى الموعظة فيه هي الضرب.. إلا أنه يجب أن يفقه فيه كيفيته حسا و معنى بأن لا يقصد في ذلك الانتقام فيخرج عن إطار العبادة في المحافظة على بيت الزوجية..

و الغريب أن علاج هذا النوع من الأعراض لم يبينه العلماء و لم يكلفوا أنفسهم حتى البحث في أسبابه و مسبباته فضلا عن أنواره و أسراره، و إن كان لكل من الأعراض الثلاثة المذكورة أنوار يختص بكل على حدة، و حتى لا أثقل على القارئ الكريم أجنح إلى ما بدا من بواطنها..

هذا الحكم الرباني أو هذا النوع من الأعراض المسبب للنشوز استغرب منه و استنكره غير المسلمين.. و تبعهم في ذلك من والاهم من مثقفينا رجالا و نساء.. و لم يستنكروه على الفيلسوف الفرنسي "ديكارت" الذي ذكره في كتابه النساء السبع..les 7 femmes ..

ذكر ديكارت في كتابه هذا النوع من النساء و سماهم :les masochistes ..

ذكره علماء الغرب لأنه فعلا موجود، و هو نوع من النساء مريض يجب معالجته، و قبل أن يمتثل إلى العلاج الحقيقي الطبيعي، علاجه الحيني و الوقتي في الضرب، لأنه في الواقع لا يتألم من الضرب و لكنه ينتفع به، و إن لم يُضرب فإنه لا يهدأ له بال حتى يَضرب.. و هذه الحالة أصبحت مع الأسف لا تخفى على أحد..

على كل حال الغربيون و من والاهم في الضلال المبين رفضوه عندما جاء به ميزان الحق و لكنهم أوجدوا له حلا و دلوا عليه و دافعوا عنه في الانحلال الأخلاقي و السقوط البشري و الاستفزاز الإنساني قصد إرضاء الشهوات الشيطانية..

و هذا النوع موجود في الرجال و النساء على السواء، و هو الذي أقام الله فيه الحد في الزنا و السرقة و القذف و كذلك في السكر... و الكلام في هذا يطول و الوقت لا يسع لذلك، و لننظر إلى النساء حسب ما ورد في كتاب الله..

 

و هكذا يتضح من الصورة الأنوار الستة التي إن فقدت في المرأة تبدأ بوادر هذا الداء العضال، فالأنوار هي الأعلى تشير إلى الحروف، و نقيضها هي الأكدار التي تشير من أسفل إلى نفس الحروف، فكلما افتقد في العبد نور إلا حلت مكانه الظلمة، فمثلا كلما افتقد نور الفرح بما قسم الله في الحياة الزوجية إلا و بدلته ظلمة عدم الرضا و القبول، و كلما افتقد نور القوة في الانكماش يعني الارتداع عن قول السوء و فعله إلا حلت مكانه ظلمة التهور في قول السوء و فعل الشر... و هكذا في سائر أنوار الحروف الستة من الكلمة، فإذا افتقدت في المرأة ثلاثة أنوار كان نصيبها نصفي بين النشوز و عدمه، أما إذا تعدت الأربعة فالمرأة ناشز لا محالة..

و كذلك الأمر بالنسبة للزوج و إن كانت الأنوار تختلف في النهاية من قوله تعالى: (وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا) فجاءت في الرجال (شُوزًا) فبدل أنوار الهاء و النون في النساء تكون الألف الدالة على امتثال أمر الله تعالى، و إن كان في الواقع يجب بحث مستقل في هذه المعاني و الدلالات النورانية لأن بها و منها و عليها فقط تتأسس السعادة في الحياة الزوجية، و إن جاد الكريم نفرد لها ما ينتفع به المهتمون سواء كانوا من الأزواج أو من أهل التخصص في نفع العباد و البلاد..

و لنرجع إلى ما نحن بصدده..

هذا الصنف من النساء الذي ذكره الله في قوله تعالى: (وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ) كما ورد في الآية الكريمة.. ما هو إلا صنف من النساء استزل من مقام التكريم و التقويم بما ذكر آنفا، و جاء في الآية بمثابة استثناء.. و لكي يصل الباحث إلى أسرار الأوصاف أو المواصفات في الآية الكريمة فلا بد من إحالة الأحكام الثلاثة الواردة و هي: فعضوهن واهجروهن في المضاجع و اضربوهن.. أما الصنف الأصلي فهو الذي جاء في ما سبق من الآية الكريمة، و هي آية واحدة، قال تعالى: (فَٱلصَّٰلِحَٰتُ قَٰنِتَٰتٌ حَٰفِظَٰتٞ لِّلۡغَيۡبِ بِمَا حَفِظَ ٱللَّهُۚ)..

فهذا النوع صالح و لا يحتاج إلى موعظة، وهو الذي يبحث عن الموعظة، و هو الذي يعظ، و هذا النوع قانت لله و هجر ما حرم الله فلا ينفع معه هجر، هن ثلاثة أنواع من الصلاح تتوفر النساء المؤمنات، صنف صلح ظاهرها و باطنها حتى تحقق فيها هذا الوصف: (فَٱلصَّٰلِحَٰتُ).. و الصنف الثاني توفر فيه القنوت لله تعالى حتى احتسبت في تصنيف الحق تعالى: (قَٰنِتَٰتٌ).. و الثالث بقوة الحفظ و المحافظة حتى كتبت: (حَٰفِظَٰتٞ لِّلۡغَيۡبِ) ...

و يجب أن يحال كل صنف على الأنوار حتى نتمكن من معرفة الأنوار المؤهِلة لهذه الصفات الحميدة التي ينشدها كل مجتمع مسلم و مؤمن.. فهذا النوع من النساء حافظ و محفوظ من الله فلا يجب أن تنتهك حرمته، و لا يجب أن يستفز من مقام التقويم و مراقي التكريم بالضرب أو الهجر في المضجع أو الموعظة في غير محلها، و إلا فيكون ذلك تنقيصا من شأنها و إهانة في حقها.. (وَزِنُواْ بِٱلۡقِسۡطَاسِ ٱلۡمُسۡتَقِيمِۚ) ..

فهذا النوع من النساء لا يحبه إلا مؤمن حقيقي و لا يبغضه و لا يستفزه و لا يستزله إلا شيطان حقيقي.. و هذا هو الذي نريد أن نشد إليه اهتمام المهتمين، و همم الاجتماعيين خصوصا في العالم الإسلامي.. فنحن بحاجة إلى فقه تخصصي لمواكبة العلوم القرآنية، فإن في كتاب الله كل العلوم، بدليل قوله تعالى: (مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ)..

فنحن بحاجة إلى متخصصين في أرقى ما وصل إليه علم الاجتماع، و هم وحدهم من علماء المادة الذين بإمكانهم أن يدركوا رقائق و دقائق علم الاجتماع الرباني بين الرجل و المرأة.. أما و أن يتناوله رجال ناشزون معرضون و نساء ناشزات كاسيات عاريات، مريضات مكبوتات، فإنه لا يكون إلا كما عالج ديكارت النساء السبع في كتابه، أو كما نقل عنه أهل الفساد و الشذوذ...

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire