السَّقـــم..

و لا يمر البحث دون أن نذكر شيئا ثالثا، كثيرا ما يلتبس الأمر فيه إلا عن ذوي بصيرة، هو السقم ..

السقم في اللغة هو المرض، و الصواب هو أن المرض إذا انتقل من الباطن إلى الظاهر، يعني من القلب إلى العقل و إلى الجسد و تمكن منهما أو من أحدهما يسمى السقم، قال تعالى على لسان أبينا إبراهيم في الصافات: (فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٞ)، قال بعض المفسرين أن نبي الله إبراهيم أدعى المرض ( الطاعون) حتى يخلو بالأصنام ليكسرها، و لم يكن به مرض، و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ غَيَرَ ثَلاثِ كَذَباتٍ، ثِنْتَنِ فِي ذاتِ اللّهِ، قوله: إنّي سَقِيمٌ، وقَولِهِ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، وقوْلِهِ فِي سارَّةَ: هِيَ أُخْتِي...

و قال تعالى في حق يونس من نفس السورة: (۞فَنَبَذۡنَٰهُ بِٱلۡعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٞو قصة نبي الله يونس معروفة.. أما الآية التي نحن بصددها قال عنها ابن عباس رضي الله عنه: ( فَنَبَذْناهُ بـالعَرَاءِ ): ألقـيناه بـالساحل، و قال قتادة (فَنَبَذْناهُ بـالعَرَاءِ): بأرض لـيس فـيها شيء ولا نبـات، و كل تأويلات السلف على نور، فالساحل أرض لا نبات فيها و تسمى أرض عراء و بعض المفسرين عملوا العراء على شخص نبي الله يونس يعني عاريا، و الحقيقة كانت عراء من الجهتين، و من أحل الكلمتين ( فَنَبَذْناهُ بـالعَرَاءِ ) يظهر له سر ذلك، إنما ما نحن بصدده كلمة: (فَنَبَذۡنَٰهُ بِٱلۡعَرَآءِ وَهُوَ سَقِيمٞ)قال السدّي: و هو كالصبي المنفوس: يعني لحم نيء..

و إذا أردنا أن نستخرج أنوار الكلمة حتى يتبين لنا ما أخفي فيها من أسرار و ما أكمن فيها من عظيم العبر

نحليها على التحليل النوراني فنجدها كما يلي:

وموضوع الأسقام والعلل والأمراض بجميع أشكالها وأنواعها، وطرق الخروج من كل هذا إلى برّ الشفاء في الواقع لم يكن لكتاب الله أن يغفل عنها (كما يدعي بعض علماء الظاهر) والحق سبحانه وتعالى أور في عديد من الآيات كقوله تعالى على لسان عيسى عليه السلام وهو في المهد صبيا: أَنِّي قَدۡ جِئۡتُكُم بَِٔايَةٖ مِّن رَّبِّكُمۡ أَنِّيٓ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيَۡٔةِ ٱلطَّيۡرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ وَأُحۡيِ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأۡكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لَّكُمۡ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ ٤٩...

ومن تأمل مليا في هذه الآية العظيمة يستشف منها درجات الربانية التي حص الله بها عباده الصالحين، ويفهم معها أن لحقيقة العلم قدم في العقيدة الراسخة وقدم في حقيقة الأسباب، فإذا قال روح الله عيسى عليه السلام: أَنِّيٓ أَخۡلُقُ لَكُم مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيَۡٔةِ ٱلطَّيۡرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۖ.. دليل على أن الخلق من الطين والنفخ فيه هو كذلك من أمر الله وبإذن الله وكما أوحى الله إليه، فهي قواعد علمية ربانية هي في متناول الإنسان إن يسر الله ذلك الإنسان ووفقه إلى ذلك.. باختصار: أنها هذا ممكن ودليله ما جرى على فعل عيسى عليه السلام... وكذلك أمر إبراء الأكمه (وهو الأعمى من الولادة) والأبرص (وهو المرض الجلدي المعروف)..

أما إحياء الموتى فكلام آخر، والمقصود به الإحياء الحقيقي للميت بعد خروج روحه وتجمد عروقه...

كل هذا يذكره العزيز الحكيم ليدل على عزيز علمه ورفيع حكمته سبحانه لعل العبد يطمع فيما أعده له من رحمة وعلم وحكمة قال تعالى في حق العبد الصالح في قصة نبي الله موسى عليهما السلام: فَوَجَدَا عَبۡدٗا مِّنۡ عِبَادِنَآ ءَاتَيۡنَٰهُ رَحۡمَةٗ مِّنۡ عِندِنَا وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا ٦٥ .. وقصة الخضر عليه السلام قانون رباني للعلم الإنساني، وجاءت تسمية العلم اللدني من قوله تعالى: وَعَلَّمۡنَٰهُ مِن لَّدُنَّا عِلۡمٗا.. وفي دعاء زكريا عليه السلام: . وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي
عَاقِر
ٗا فَهَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا...

أما إذا رجعنا إلى آيات الشفاء المذكورة في كتاب الله تعالى، فالراجح الذي استنتجه المسلمون هو التبرك بها في الشفاء (وهذا لا يخفى على أحد) تقرأ على موضع الألم أو على العلة أو على المريض أو على مشروب أو مأكول وكله خيروبركة...

أما المقصود الحقيقي بخريطة آيات الشفاء في القرآن فإنها في الواقع تبين (كما هي ست آيات) لست أنواع من الأمراض والأعراض العضوية والنفسية والسلوكية وتخصصاتها الشفائية، وسر ذلك في غاية الدقة والأهمية، مثال ذلك في قوله تعالى في عسل النحل: يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ .. وفي ما سبق من الآية يذكر العليم الحكيم سرا في صناعة هذا الشراب المختلف الألوان الذي في شفاء للناس (والمقصود كل الناس وليس المؤمنين فقط ولا المسلمين) قال تعالى في حكمة الصناعة: وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ أَنِ ٱتَّخِذِي مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُيُوتٗا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعۡرِشُونَ ٦٨ ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ... وكل هذه حكم علمية محضة يجب استنباطها واعتمادها لمن أراد أن يوافق الوحي الرباني في صناعة الأدوية...

أما في الآيات الأخرى فمنها ما هو مخصص للمؤمنين دون غيرهم كقوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ ٱلۡقُرۡءَانِ مَا هُوَ شِفَآءٞ وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ ٱلظَّٰلِمِينَ إِلَّا خَسَارٗا.. ومن قرأ ما سبق الآية وما تلاها تتظح الصورة في علل الإنسان وشفاء القرآن.. وكذلك قوله تعالى: قُلۡ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدٗى وَشِفَآءٞۚ.. ففي الآية السابقة هدى ورحمة وفي هذه هدى وشفاء...

وقد ورد في كتاب الله تعالى نظام غذائي وترتيب في ذكر ما خلق الله مما تنبت الأرض وأولواتها حسب التنزيل (ولم تكن عبثا) ولكنها أهملت (مع الأسف كله) من علمائنا حيث فصلوا التخصص العلمي في الطب والكيمياء والفيزياء... على الفقهي والعقدي واللغوي... فوصل الحال بنا إلى ما يُرى حتى بلغ الحال ببعض الفقهاء قوله أن في الدين العبادات فقط أما العلوم فلها شأن آخر (وقد سبق الكلام على هذا الموضوع)..

و الكلام يطول هنا وليس هذا موضعه (ولعل الله يفتح في هذه الأسرار لتصل إلى من يهمه أمر الناس في العلاج والشفاء والتخصص) في بحث سميته الطب الإسلامي... وسنتناوله في بحث آخربحول الله وتوفيقه..

لنحاول أن نختم الموضوع بما جاد به الكريم في هذا الموضوع بهذه الكلمة، و إن كان في الواقع يلزمه بحث أعمق حتى تتبين أسراره و أنواره..

1) قاعدة الحقيقة، هي ما جاءت بلسان الحق في كتاب الحق من قوله تعالى: (نَحۡنُ قَسَمۡنَا بَيۡنَهُم مَّعِيشَتَهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۚفالقسمة المعيشية بين الأنام في الغنى و الفقر و الصحة و السقم و الرفعة و الخفضة و العطاء بجميع أنواعه و المنع بجميع أشكاله أسندها الحكيم العليم العدل الكريم إلى نفسه سبحانه، و الناظر بعين البصيرة يرى هذا العطاء الرباني تاما كاملا بين جميع خلقه بعدل يليق بحكم الله العزيز الحكيم، فمن انتقص في المال زاده الله في الصحة و من نقص في العقل زيد في الصبر و ما انتقص من عبد شيء إلا عوضه الله بشيء يفتقر إليه غيره، إنما المكيال عدل بين الأنام على اختلاف أشكالهم علمه من علمه و جهله من جهله..

2) القاعدة الثانية، يقول الحق جل في علاه: (مَّا يَفۡعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمۡ إِن شَكَرۡتُمۡ وَءَامَنتُمۡۚ وَكَانَ ٱللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمٗا ١٤٧) فالله هو الغني، لا تضره معصية العاصين و لا تنفعه طاعة الطائعين، و هو الغني عن العالمين، إنما رحمته سبقت عذابه، و رحمته سبحانه وسعت كل شيء، فالكريم يقبل عليك بملاطفات الإيمان ليجعلك من أهل الإيمان، فإن قابلت ملاطفاته بالعصيان قيدك إليه بسلاسل الامتحان لكي لا تستفحل فيك العصيان، و هذا هو السر في رحمة الحنان المنان..

إذا استوجب مرض المريض فالرحمن يتجلى فيه برحمته ليرحمه و تلك أنوار السقم، و هذه الأنوار بينتها السنة المحمدية الشريفة قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الرباني فيما يرويه عن رب العزة في يوم الحساب، يقول رب العزة العزة: ( عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول العبد فكيف تمرض و أنت رب العزة، فيقول الحق جل في علاه، مرض عبدي فلان، فلو عدته لوجدتني عنده...) و المعنى أن السوق بسلاسل الامتحان رحمة من الحنان المنان بالنسبة لمن لم يقبل على الله بملاطفات الإيمان، أما حقيقة التجليات بجميع أنواعها فهي في الواقع هبات ربانية رحمانية، و إلا كيف تكون تجليات القوي إلا بالقوة و الجليل إلا بالجلال و القاهر إلا بالقهر، فمن عرف سر التجليات تعامل معها بما يليق بها لا بما يعارضها فإن ذلك سرها، و قد يسقى العبد في تجلي ما لم يسقه في سنين عبادة من صيام و قيام، و الراسخون في العلم يسمون ساعات التجليات الربانية أوقات الإجابة، أو بعبارة ليالي القدر، فلننظر إلى ما أعده الكريم في هذه الكلمة الربانية: ( سقيم) ..

* الحرف الأول السين، و له من الأنوار خفض جناح الذل، فالجليل يتجلى باسمه العزيز ليذل العبد إلى عزته المتجلية في غيره حتى يتنبه العبد من غفلته و يقترب بعد بعده و يعلم أن العزيز لا حجة معه إلا بالتذلل له..

* الحرف الثاني هو القاف، و له من الأنوار البصيرة، فإذلال العبد بين يدي العزيز المقصد منه خرق الحواس الظاهرة، و بداية الإحساس بطريقة أخرى، و لا يتوقف حكمه و إحساسه على ما يرى و ما يسمع و لكن لينظر ما وراء ما رأى و ما سبب ما سمع، و هذه تحرك للعبد حاسة الفكر في حقيقة الأمور، و منها سميت عبادة الفكرة، و قد ورد في الأثر أن فكرة ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة، فعند السقيم العليل تنفتح هذه الحاسة و تصقل و تنمى فهي هبة من الحكيم سبحانه..

* الحرف الثالث هو الياء، و له من الأنوار الخوف من الله عز و جل، و ذلك اسمه تعالى القوي الشديد، فمن لم يقبل على الله بملاطفات الإحسان التي هي التذلل لله العزيز المجيد و الخوف من الله القوي الشديد، بعبادات النظرة و الفكرة مع شريعة و حقيقة الفطرة، كان رحمة به أن يساق بحبال الحقيقة إلى ما فيه نفعه بنفعه و نفع غيره بنفعه و ذلك نور ما بقي من الحروف..

* الحرف الأخير و هو الميم، و هو من حروف الآدمية و له الذكورية، و معناها النفع للعباد و النفع للبلاد، وهذا السر الذي خلق من أجله بني آدم، و هو السر الذي فرضته أيادي القدرة بحكمة لدوام و مداومة هذا الاستمرار البشري..

فسبحانك ربي ما أعظمك، و ما أجلك و ما أعدلك و ما أحكمك، سبحانك سبحانك سبحانك.. ما أبطنك في الظهور و ما أظهرك في البطون، سبحانك ما أعدلك في الأحكام و ما أرحمك بالأنام، و ما أعلمك بالأحوال و ما أقدرك على الأكوان، و ما أقهرك على خلقك و ما ألطفك بهم، إليك يرجع كل شيء، و بك سار كل شيء، و منك كان كل شيء، فسبحانك كيف تثبت أزليتك مع من حكمت عليه بالزوال، و ترحم بفضلك عمن أعرض عنك يا كريم يا مفضال، اللهم كن لنا بما هو منك لنا و لا تكلنا إلى ضعفنا و لا إلى جهلنا و لا إلى تقصيرنا طرفة عين.. إنك على كل شيء قدير.. و صلى الله على سيدنا محمد و على آله و صحبه و سلم...

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire