الحاكم حكمٌ على المحكوم:

صدق من قال: لا يصلح آخر الأمة إلا بما صلح أولها.. و لا نريد من خلال ا الطرح أن نجر أذيال السياسات المخزية، و كل عاقل لها منكر، و إنها لظلمات ابتكرت لشطن العالم في غياهب أكدارها و دهاليز شرورها، و ما لاح طيف من ظلام إلا في غياب نور و ود و سلام.. صدق الكاذب شرشل يوما كان يزور مقبرة في رسميات فقال عندما وجد مكتوبا على قبر، هنا يرقد جثمان الرجل الصادق و السياسي المحنك " فلان".. قال ساخرا: لأول مرة أرى رجلين في قبر واحد، قال له القائل و كيف ذلك قال: رجل صادق لا يكون سياسيا أبدا و سياسي لا يكون صادقا أبدا، فالعجب كيف اجتمعا في قبر واحد...

لا نلوم السياسة بقدر ما نلوم السياسيين، فما يساس به أمور الناس مرجعه إلى حقائق سلوك الناس، فإن صلح أمر الناس صلحت سياسة ما بينهم، و أماطت أيادي الحقيقة أنواع الأضرار من حولهم، فسلوك الناس في الواقع هو الذي يسوس الناس و ليست السياسة هي التي تسوس سلوك الناس، و دليله في قوله تعالى: (إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ) و جاء في الأثر: كيف ما تكونوا يولّ عليكم..

فإذا أردنا أن نفك هذه الرموز و نفتح أبواب هذه الكنوز لنعلم ما سر تقهقرنا و تقدم غيرنا فلنتدبر مثلا قول الله تعالى: (وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا).. فلنحاول أن نستقرئ ما ظهر من معناها العربي و هي كما يلي: أن إرادة الحق جل في علاه في هلاك القرية مرتبطة بحق قوله سبحانه في تدميرها، و حق قول الحق في التدمير مرتبط بفسوق مترفي القرية فيها و هذا هو أمره سبحانه في الاستحقاق..

فالله جل في علاه هو الحق المطلق، فمن كان على أمره كان على الحق بقدر ثباته على هذا الأمر الحق، و من خالفه يكون على الباطل بقدر مخالفته للحق، و هذا هو السر.. فلا يأتي من الجناب الجليل إلا كل جميل وجليل و عظيم، و إلا فكيف نفسر قول الله تعالى: (وَيَمۡكُرُونَ وَيَمۡكُرُ ٱللَّهُۖ وَٱللَّهُ خَيۡرُ ٱلۡمَٰكِرِينَ) و قوله تعالى: (أَفَأَمِنُواْ مَكۡرَ ٱللَّهِۚ فَلَا يَأۡمَنُ مَكۡرَ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ) فكيف هو مكر الله جل في علاه؟؟؟

قال الفخر الرازي: أن المراد منه الأمر بالفعل، ثم إن لفظ الآية لا يدل على أنه تعالى بماذا يأمرهم فقال الأكثرون: معناه أنه تعالى يأمرهم بالطاعات والخيرات، ثم إنهم يخالفون ذلك الأمر ويفسقون وقال صاحب «الكشاف»: ظاهر اللفظ يدل على أنه تعالى يأمرهم بالفسق فيفسقون، إلا أن هذا مجاز ومعناه أنه فتح عليهم أبواب الخيرات والراحات فعند ذلك تمردوا وطغوا وبغوا قال والدليل على أن ظاهر اللفظ يقتضي ما ذكرناه، أن المأمور به إنما حذف لأن قوله؛ { فَفَسَقُواْ } يدل عليه يقال: أمرته فقام، وأمرته فقرأ لا يفهم منه، إلا أن المأمور به قيام أو قراءة فكذا ههنا لما قال: { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } وجب أن يكون المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا لا يقال يشكل هذا بقولهم أمرته فعصاني أو فخالفني فإن هذا لا يفهم منه أني أمرته بالمعصية والمخالفة؛ لأنا نقول: إن المعصية منافية للأمر ومناقضة له، فكذلك أمرته ففسق يدل على أن المأمور به شيء غير الفسق لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به، كما أن كونها معصية ينافي كونها مأموراً بها، فوجب أن يدل هذا اللفظ على أن المأمور به ليس بفسق، وهذا الكلام في غاية الظهور فلا أدري لم أصر صاحب «الكشاف» على قوله مع ظهور فساده، فثبت أن الحق ما ذكره الكل وهو أن المعنى أمرناهم بالأعمال الصالحة وهي الإيمان والطاعة والقوم خالفوا ذلك الأمر عناداً وأقدموا على الفسق.

القول الثاني:

في تفسير قوله: { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } أي أكثرنا فساقها.. قال الواحدي: العرب تقول أمر القوم إذا كثروا. وأمرهم الله إذ كثرهم، وآمرهم أيضاً بالمد، روى الجرمي عن أبي زيد أمر الله القوم وآمرهم، أي كثرهم. واحتج أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بقوله صلى الله عليه وسلم:" خير المال مهرة مأمورة وسكة مأبورة "والمعنى مهرة قد كثر نسلها يقولون: أمر الله المهرة أي كثر ولدها ومن الناس من أنكر أن يكون أمر بمعنى كثر وقالوا أمر القوم إذا كثروا وآمرهم الله بالمد أي كثرهم، وحملوا قوله عليه الصلاة والسلام:" مهر مأمورة "على أن المراد كونها مأمورة بتكثير النسل على سبيل الاستعارة. وأما المترف: فمعناه في اللغة المتنعم الذي قد أبطرته النعمة وسعة العيش { ففسَقُواْ فِيهَا} أي خرجوا عما أمرهم الله: { فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ } يريد: استوجبت العذاب..

و قال ابن عربي:

إنّ لكل شيء من الدنيا زوالاً وزواله بحصول استعداد يقتضي ذلك. وكما أن زوال البدن بزوال الاعتدال وحصول انحراف يبعده عن ظل الوحدة التي هي سبب بقاء كل شيء وثباته فكذلك هلاك المدينة وزوالها بحدوث انحراف فيها عن الجادة المستقيمة التي هي صراط الله وهي الشريعة الحافظة للنظام، فإذا جاء وقت إهلاك قرية فلا بد من استحقاقها للإهلاك، وذلك بالفسق والخروج عن طاعة الله فلما تعلقت إرادته بإهلاكها تقدّمه أولاً بالضرورة فسق مترفيها من أصحاب الترف والنِعَم بطراً وأشراً بنعمة الله واستعمالاً لها فيما لا ينبغي وذلك بأمر من الله وقدر منه لشقاوة كانت تلزم استعداداتهم وحينئذ وجب إهلاكهم..

و قال ابن عجيبة في إشارته:

الإشارة: من اهتدى إلى حضرة قدسنا فإنما يهتدي لينعم نفسه بأسرار قدسنا، ومن ضل عنها فإنما يضل عليها؛ حيث حرمها لذيذ المعرفة. فإن كان في رفقة السائرين، ثم غلبه القضاء، فلا يتعدى وبال رجوعه إلى غيره، بل ما كان يصل إليه من المدد يرجع إلى أصحابه، وما كنا معذبين أحدًا؛ بإسدال الحجاب بيننا وبينه، حتى نبعث من يُعَرِّف بنا، ويكشف الحجاب بيننا وبين من يريد حضرتنا. والمراد بالحجاب: حجاب الوهم؛ بإثبات حس الكائنات، فلو انهتك حجاب الوهم لوقع العيان على فقد الأعيان، ولو أشرق نورُ الإيقان لغطى وجودَ الأكوان. وإذا أردنا أن نتلف قلوبًا أمرنا أربابها بالتنعم بالحظوظ والشهوات، فخرجوا عن طريق المجاهدة والرياضة، فحق عليها القول بغم الحجاب، فدمرناها تدميرًا، أي: تركناها تجول في أودية الخواطر والشكوك، فتلفت وهلكت، نعوذ بالله من شر الفتن ودرك المحن.

قلت أن ما قاله الأئمة الأعلام في تأويل الآية صحيح و سليم و رائع، و لكن إذا نظرنا إلى الآية الشريفة من خلال الأنوار المحمدية الشريفة ظهر البرهان و انقطع البيان و انخرس اللسان، و عرفنا ما سر أمر الله و ما سر فسوق الناس و ما هو حق القول بالعذاب.. من قوله تعالى: (وَإِذَآ أَرَدۡنَآ أَن نُّهۡلِكَ قَرۡيَةً أَمَرۡنَا مُتۡرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيۡهَا ٱلۡقَوۡلُ فَدَمَّرۡنَٰهَا تَدۡمِيرٗا)..

فإذا نظرنا إلى قراءة عربية أقرب في معنى قوله تعالى: أمَرنا، و جاءت في قراءة أمّرنا مترفيها، بمعنى جعلنا الترف في الأمراء أو أمر الناس في يد المترفين منها و الكل يصب بنفس الإيقاع النوراني، أما قراءة الجمهور: أمرنا مترفيها.. فالسر في أمر الله و كما سبق ذكره أن الجليل لا يأتي منه إلا كل جميل، فالأمر يقتضي حقيقته لا مجازه، فالله أمر بالحق و لا أمر له غير الحق، و لكن المأمورين ما أتمروا بما أمر به الحق و ذلك محل فسوقهم.. و هذا هو السر..

فإذا أحلنا بعض من الكلمات على أنوار الحبيب الطبيب سواء على أنوار فسوق الفاسقين أو ترف المترفين أو أوامر المؤمرين أو هلاك المهلكين يتضح لنا البرهان و ينقع البيان و ينخرس اللسان، فلنبدأ بالفسوق كما ورد في الآية الكريمة، "أمرنا مترفيها ففسقوا فيها ":

فالفسوق هنا كما ورد في الآية العظيمة جاء على أنوار ستة..

الحرف الأول هو الفاء و جاءت هنا للدلالة على حمل علوم أنوار الكلمة و الدلالة على أنوارها و أسرارها..

و الفاء الثانية لنور حمل العلوم، و المقصود بحمل العلوم هو تحصيلها و المحافظة عليها، و المقصود بالعلوم كل العلوم ظاهرة و باطنة دينية و دنيوية، إذا لم نكن نريد أن نقرأها على أن الفاء الأولى لعلوم الشريعة الطبيعية و الثانية لعلوم الحقيقة الطبيعية، كما يمكن أن تكون الفاء الأولى لعلوم الدنيا و الثانية لعلوم الدين كما سوف نوضح ذلك على قدر المستطاع بفضل الله تعالى..

السين من حروف البسط و لها من الأنوار خفض جناح الذل ..

و القاف من حروف الروح و لها البصيرة..

و الواو من حروف الرسالة و لها الموت في الحياة..

و الألف من حروف القبض و لها امتثال أمر الله تعالى..

و لعل السائل يسأل: هل لقرى الغرب من غير المسلمين نصيب من هذه الأنوار حتى يكون ثباتهم فيما هم فيه ثابتون و ناجحون و تقهقرنا فيما نحن فيه متقهقرون و فاشلون و محبَطون؟؟..

الجواب: أن الجليل أوجد بعدله و حكمته باطنا لكل ظاهر و ظاهرا لكل باطن و جوهرا لكل مادة و مادة لكل جوهر، و جعل للدنيا آخرة تجزي و جعل للآخرة دنيا منها تستمد الجزاء، فمن كفاه ظاهر عن باطن كان له منه نصيب، و إن كان ناقصا، و من أجزته المادة عن جوهرها كان منها قريب و ما له في الجوهر من نصيب، و من كفته الدنيا عن الآخرة كان بعدل الله له نصيب منها، بدليل قولها تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرۡثَ ٱلۡأٓخِرَةِ نَزِدۡ لَهُۥ فِي حَرۡثِهِۦۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرۡثَ ٱلدُّنۡيَا نُؤۡتِهِۦ مِنۡهَا وَمَا لَهُۥ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ).. و قوله تعالى: (مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيۡهِمۡ أَعۡمَٰلَهُمۡ فِيهَا وَهُمۡ فِيهَا لَا يُبۡخَسُونَ) ..

فالأنوار كذلك فيها ظاهر و باطن، يعني تدل على شريعة و حقيقة، و شريعتها منها ما هي شريعة العوام والعموم و تلك شرعة الله في الحياة و منها ما هي شريعة أهل التخصص و هي ما شرع الله لعبادته و تلك أمور عقائدية.. فإذا سألك سائل هل للكافر نصيب من الأنوار، الجواب نعم و تلك حكمة الواحد القهار، و لا يحرم عبد من طبيعة حرث حرثها و لا يمنع قاصد من قصد قصده، فمن كانت هجرته إلى الله و رسوله فهجرته إلى الله و رسوله، و من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه..

فإذا نظرنا إلى الأنوار المادية لكلمة الفسوق كما وردت في الآية " ففسقوا " فإنه يتضح البرهان كما سلف ذكره و هي كما يلي..

الفاء الأولى لحمل علوم الكلمة و التنبه لها و صيانة مظاهرها و رسومها المادية..

الفاء الثانية لحمل علوم الدنيا في كل ما يتعلق بها و تلك علوم المادة في جميع النواحي و المناحي..

السين و تعني خفض جناح الذل، و ماديا تعني أن المترفين أو الحكام يتنازلون عن كبريائهم و يسمعون للآخرين و يأخذون منهم ما ينفع و يسمعون منهم حتى ما لا ينفع و يحولونه إلى ما ينفع..

القاف للبصيرة، و المقصود المادي منها هو استعمال ذلك الحدس أو استثمار أهله في الحواس الغير المعتادة في الوصول إلى مبتغاهم و لو بأي طريقة..

الواو للموت في الحياة، و تلك التضحيات و التفاني في مصالحهم و لو كلف ذلك ما كلف من مال أو أرواح..

امتثال الأمر ، و هو في ذلك تطبيق القوانين و إن لم تكن أصليه فهم يطبقون القوانين الوضعية التي ارتأوها لكل تنظيم و ضمان كل حقوق للفرد و المجتمع..

فيا أمة الإسلام و يا أهل السلام، و يا من تدعون الناس إلى تطبيق أوامر الملك العلام، هلا وجدتم في حكامنا أو مترفينا شيئا من الحدود الدنيا للأنوار..

فإذا لم نصل إلى تطبيق الحدود الدنيا، و هي مبلغة بلا شك إلى الحياة المضمون في الأكل و الشرب و الأمن، فكيف نتطلع إلى سنة الحبيب المحبوب سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة و أزكى السلام..

بكل صراحة.. و ما كنت أود أن أختم بهذه الكلمة، فأقول و على الله التوكل، فالذي لا زلنا نشكك فيه كعلم للأنوار المحمدية فأعداؤنا يسيرون بعكسه علينا كأكدار.. و حسبنا الله و نعم الوكيل، و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم، و أختم بالصلاة و السلام على منه انشقت الأنوار و انفلقت الأنوار و فيه ارتقت الحقائق وتنزلت علوم سيدنا آدم فأعجز الخلائق، و له تضاءلت الفهوم، فلا يمكن و لن يمكن أن يدركه منا سابق و لا لاحق...

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire