الفرد الأمة يكون إماما..

إذا ثبتت الأنوار الثلاث في فرد كان أمة، و إذا كان في جماعة يسمى إماما، قال تعالى: (وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِيۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّٰلِمِينَ)، فنبي الله إبراهيم عليه و على نبينا أفضل الصلوات و أزكى السلام كان أمة وحده ثم جعله الله إماما بدليل قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ)، و تعتبر الإمامية هنا عهدا من الله سبحانه بدليل نفيها عن الظالمين بدليل قوله تعالى: (لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّٰلِمِينَ)..

و ذكر الجليل جل جلاله وصفا مدققا للإمام في سورة الفرقان بعد نخصص لعباد الرحمن في أوصاف البدلية قال تعالى: (وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبۡ لَنَا مِنۡ أَزۡوَٰجِنَا وَذُرِّيَّٰتِنَا قُرَّةَ أَعۡيُنٖ وَٱجۡعَلۡنَا لِلۡمُتَّقِينَ إِمَامًا)، و الحق سبحانه هنا ذكر إمام المتقين، قال ماضي أبو العزائم: هو من ورثه الله علوم الرسالة والنبوة ، فقام داعياً للحق بالحق، دالاً على الحق بالحق، مجدداً للسنة، مبيناً لسيرة السلف الصالح ، هذا هو الإمام المقتدى به..

و قال الآمدي: هو الملازم للمراقبة مع حفظ الحدود والأوامر، مداوم على الاستقامة، على طريق الكامل المكمل، فمدده من نور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهو الفرد وقطب الدائرة، وله الولاية والعزل، وخرق العادات وتتابع الكرامات من حيث شاء ومتى شاء الله..

روى أبو داود عن رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال:‏ (‏إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) ‏ و الحديث مشهور و إن ضعفه البعض.. قال المناوي في مقدمة فتح القدير: واختلف في رأس المائة هل يعتبر من المولد النبوي أو البعثة أو الهجرة أو الوفاة ولو قيل بأقربية الثاني لم يبعد، لكن صنيع السبكي وغيره مصرح بأن المراد الثالث..

قال المناوي في فتح القدير شرح الجامع الصغير: ولا يكون ( أي هذا المجدد) إلا عالما بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة..

و‏قال الحافظ ابن حجر في توالي التأسيس قال أبو بكر البزار: سمعت عبد الملك بن عبد الحميد الميموني يقول: كنت عند أحمد بن حنبل فجرى ذكر الشافعي فرأيت أحمد يرفعه وقال روي عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تعالى يقيض في رأس كل مائة سنة من يعلم الناس دينهم ) قال: فكان عمر بن عبد العزيز في رأس المائة الأولى وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة الأخرى.. ‏

‏وقال ابن عدي : سمعت محمد بن علي بن الحسين يقول : سمعت أصحابنا يقولون : كان في المائة الأولى عمر بن عبد العزيز , وفي الثانية محمد بن إدريس الشافعي...

قال الحافظ بن حجر: وهذا يشعر بأن الحديث كان مشهورا في ذلك العصر ففيه تقوية للسند المذكور مع أنه قوي لثقة رجاله..

‏ و روي عن أبي بكر بن الحسن قال حدثنا حميد بن زنجويه سمعت أحمد بن حنبل يقول يروى في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن الله يمن على أهل دينه في رأس كل مائة سنة برجل من أهل بيتي يبين لهم أمر دينهم)..

 

و قد وقع قول كثير في خصوصيات الإمام، و لكن من يرى حديث حذيفة بن اليمان حق له أن يبحث فعلا في هذا الموضوع و هذا حديث حذيفة، قال رضي الله عنه: (كان الناس يسألون رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير شر قال:‏ ‏نعم، فقلت هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه ‏ ‏دخن.. ‏ ‏قلت وما ‏ ‏دخنه؟ ‏ ‏قال قوم يستنون بغير سنتي ويهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر.. فقلت هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم، دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها.. فقلت يا رسول الله صفهم لنا، قال: نعم قوم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا.. قلت يا رسول الله فما ‏ ‏ترى إن أدركني ذلك قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم.. فقلت فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك)..

فلننظر إلى هذه الكلمة الدالة كما وردت في كتاب الله من قوله تعالى: (وَٱجۡعَلۡنَا لِلۡمُتَّقِينَ إِمَامًا) و من قوله تعالى: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ) و هذه أنوار الكلمة:

فإذا أردنا أن نحلل هذه الكلمة فالواقع يجعلنا أمام تحدي من الأنوار و ديبجة نورانية على المهتمين أن يلجوها بكل ما يملكون من قواعد إيمانية وعقدية وكل ما تعلموا من علوم اجتماعية وفلسفية...

أما الكلمة " إماما " فلا تتوفر إلا على حرفين اثنين أولهما الألف و تكرر ثلاث مرات، و الثاني هو الميم و تكرر مرتان، و إنما يدل هذا على أن الأنوار تركزت في هذا المقام على نورين اثنين، أو تقول كأن هذين النورين هما أساس كل أنوار السلوك في السير إلى ملك الملوك و هما امتثال أمر الله تعالى و الذكورية (النفع والانتفاع)..

تكررت أنوار الامتثال ثلاث مرات، و ذلك يدل على الإمام متوفر على الأنوار الثلاث و بها يكون مسؤول على امتثالها في الطبقات الثلاث: طبقات العموم و الخصوص و خصوص الخصوص، و إن شئت قلت يتولى أمرها عند عموم المسلمين ليرتقوا بها إلى عموم المؤمنين و من خصوص المؤمنين ليرتقوا بها إلى زمرة المحسنين..

و إن شئت قلت يتولاها في أهل الشريعة حتى يكونوا من أهل الطريقة و يستثمرها في أهل الطريقة حتى يصلوا إلى الحقيقة، فالإمام على العموم متصرف بأمر الله في الملك و الملكوت و مطلع كذلك على الجبروت، فهو بأمر الله يتصرف في عالم الملك بما حكم الله، و في عالم الملكوت بما أراد الله و في عالم الجبروت بما سبق في علم الله..

و تكررت أنوار الذكورية مرتين، و هي الميم تماما كما تكررت في اسم سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم و شرف و عظم، و ذلك إنما يدل على أن شخص الإمام إنما هو خليفة لرسول الله بأمر الله إلى أن يشاء الله، و ذلك لاستخلافه..

أو إن شئت قلت لنيابته عنه جسدا و سرا و نورا، و الذكورية قد سبق معناها و هي ضمان الاستمرارية، وتكرار الميم إنما يدل على ما ظهر من الأمور و ما خفي منها فيما يتعلق بما ظهر من أعمال الجوارح و ما خفي منها من أعمال القلوب، لضمان ما ظهر من الكائنات و ما خفي من المكونات...

* فالألف الأولى من الامتثال مكسورة فهي مزودة بنور كمال الحواس الظاهرة، و هو امتثال أهل البداية، فمن لم يتوفق في توظيف حواسه الظاهرة استحال عليه أن يمتثل أمر الله بحال من الأحوال، و إذا وفقه الله لامتثال أمره في السمع و النظر و الشم و الذوق و اللمس و السعي و ما إلى ذلك من الحواس الظاهرة و ذلك معناه العمل الظاهر أو العمل بالشريعة، و ذلك كقوله تعالى: (ٱقۡرَأۡ بِٱسۡمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ) و كمثل قوله تعالى: (قُلۡ إِنَّمَآ أَنَا۠ بَشَرٞ مِّثۡلُكُمۡ يُوحَىٰٓ إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَٰهُكُمۡ إِلَٰهٞ وَٰحِدٞۖ فَمَن كَانَ يَرۡجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِۦ فَلۡيَعۡمَلۡ عَمَلٗا صَٰلِحٗا وَلَا يُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦٓ أَحَدَۢا).. فالكسر في اِقرأ و إِنما و إِلي و إِلهكم و إِله كلها من كمال الحواس الظاهرة، فمن امتثل أمر الله بالحواس الظاهرة فهل بقي له مراقي: الجواب نعم و هو:

* الألف الثانية من الامتثال و هي ساكنة و سكونها من القبض و النور هنا لعدم الحياء من قول الحق، و ذلك دليل قول الرحمن الرحيم لنبيه المصطفى الكريم: (وَأَنذِرۡ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحۡشَرُوٓاْ إِلَىٰ رَبِّهِمۡ لَيۡسَ لَهُم مِّن دُونِهِۦ وَلِيّٞ وَلَا شَفِيعٞ لَّعَلَّهُمۡ يَتَّقُونَ).. و قوله تعالى: (إِنَّآ أَرۡسَلۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ بَشِيرٗا وَنَذِيرٗاۚ وَإِن مِّنۡ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٞ).. فلا يسير السائر في هذا النور الذي هو امتثال أمر الله، إلا ببروزه و إظهاره، و هو من الأنوار المستترة في هذا المقام التي يجب إخراجها و إظهارها، و به تكون الدعوة بالحق، و به يكون قول الحق، و به تكون الدلالة على الحق.. و هو نور أهل الإيمان و نور أهل السلوك و نور أهل الوسط و نور أهل الطريق..

* بقي النور الثالث من الألف الثالث من هذا المقام العظيم و هو كذلك مجزوم و سكونه قبض مطلق و نوره من سريان الحاسة في الذات حيث تفرح الذات بالخير و تتألم بالشر، و هو المقام الأسمى و الحال الأعلى والعروة الوثقى، و لا يكون إلا بالله و لا يكون إلا في الله و لا يكون إلا لله.. و دليله قوله تعالى: (وَمَآ أَرۡسَلۡنَٰكَ إِلَّا رَحۡمَةٗ لِّلۡعَٰلَمِينَ).. فبالرحمة فقط يكون هذا السر و هذا النور قال صلى الله عليه وسلم: ( ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).. و هكذا تبين أن هذه الألفات الثلاث دخل تحتها من أنوار الحبيب صلى الله عليه وسلم ما لا يطيقه إلا الإمام..

أما الميم الأولى فللذكورية كما سبق و حركتها الفتح و هو من نور الرسالة، و لها من الأنوار كمال الحواس الباطنة، و جاءت الميم هنا بعد الألف الأولى مباشرة، فإذا كان للامتثال الأول نور الحواس الظاهرة فإنه ترتب على الميم الثانية كمال الحواس الباطنة، و المعنى أن من تحلى بنور كمال الحواس الظاهرة في امتثال أمر الله يورثه الله كمال الحواس الباطنة في فعل الخيرات و تجنب المنكرات و تسمى أنوار التخلي و التحلي، و مثاله في أنوار التخلي من قوله تعالى: (قُلۡ تَعَالَوۡاْ أَتۡلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمۡ عَلَيۡكُمۡۖ أَلَّا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗاۖ...) الآية، و أما أنوار التحلي كقوله تعالى: (مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقۡرِضُ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا فَيُضَٰعِفَهُۥ لَهُۥٓ أَضۡعَافٗا كَثِيرَةٗۚ وَٱللَّهُ يَقۡبِضُ وَيَبۡصُۜطُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ)..

و أما الميم الثانية فلها الفتح و نورها كمال الخلق الباطن، و كما سبقت الإشارة إليه أن السلوك فيه ظاهر وباطن كما أن الفواحش فيها ظاهر و باطن قال تعالى: (قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ...) فيترتب عليه فقه في الظاهر و فقه في الباطن، فإذا كان ظاهر الفقه ما تعلق بفقه الجوارح في الإنسان فإن الفقه الباطني هو ما يتعلق بما انطوى عليه الكيان بعد ما ظهر على الأبدان، و هو الذي عرف الرسول الكريم به الإيمان قال صلى الله عليه وسلم: ( هو ما وقر في القلب و صدقه العمل).. فعند أهل الشريعة يسبق عمل الظاهر عمل الباطن، أما عند أهل الحقيقة فيسبق عمل الباطن عمل الظاهر، لأنه جاء مرتبا هكذا في الحديث الشريف: ما وقر في القلب أولا و بعد ذلك يصدقه العمل، فمحبة الصلاة هي من الصلاة و محبة الخير هي من الخيرات وكراهية المنكرات من باب دحر المنكرات و هذا هو السر..

فالأنوار التصاعدية في الألفات جاءت بهذا الترتيب:

1) كمال الحواس الظاهرة..

2) عدم الحياء من قول الحق..

3) سريان الحاسة في الذات..

و أما أنوار الميم فجاءت تصاعدية كما يلي:

1) كمال الحواس الباطنة..

2) كمال الخلق الباطن..

و إذا أردنا أن نستدل بقول ساداتنا و موالينا رضي الله عنهم و أرضاهم و ما قالوه في التعريف بهذا المقام الشريف..

قال الإمام علي كرم الله وجهه: الإمام هو كلمة الله، وحجة الله، ووجه الله، ونور الله، وحجاب الله، وآية الله، وهو النور الأول، والكلمة العليا، واليتيمة البيضاء، والوحدانية الكبرى التي من أعرض عنها أدبر وتولى ، وحجاب الله الأعظم الأعلى.. والإمام ... بشر ملكي، وجسد سماوي، وأمر إلهي، وروح قدسي، ومقام علي، ونور جلي، وسر خفي، فهو ملكي الذات، إلهي الصفات، زايد الحسنات ، عالم بالمغيبات..

و قال إمام الطريقة الجنيد رضي الله عنه: الأئمة : هم هداة ، نصحاء ، خيار ، أبرار ، أتقياء ، نجباء ، سادة ، حكماء ، كرام.. أولئك الذين جعلهم الله أعلاماً للخلق منشورة، ومنارا للهدى ، بنورهم في ظلمات الجهل يهتدى ، وبضياء علومهم في الملمات يستضاء ، يجعلهم الله رحمة لعباده وبركة في أقطار بلاده ، يعلم بهم الجاهل ، ويذكر بهم العاقل ، من اتبع آثارهم اهتدى ، ومن اقتدى بسيرتهم سعد ، أحياهم الله حياة طيبة وأخرجهم من الدنيا على السلامة منها ، خواتيم أمورهم : أفضلها ، وآخر أعمالهم : أكملها..

و قال الإمام القشيري: هو مقدم القوم، واستحقاق رتبة الإمامة باستجماع الخصال المحمودة التي في الأمة فيه، فمن لم تتجمع فيه متفرقات الخصال المحمودة لم يستحق منزلة الإمامة..

و قال الشيخ ماضي أو العزائم: الإمام مطوي سره، مجهول مقامه، خفي حاله، وغاية ما يعرف منه، انه الفرد الوارث لأسرار النبوة، وعلوم الرسالة ، العالم الرباني، والإنسان الروحاني، الراسخ في العلم، ولا يظهر سره ولا يعلم حاله إلا لأهل الصفوة ، الذين جعل لهم الله نوراً ...

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire