فيزياء الحياة

بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ

سبحان ربي العظيم، سبحانه ما أعظمه، خلق الإنسان في هذا الكون العظيم و كرّمه، و خلق فيه الفكر وقوّمه، و أنزل له الحكمة و علّمه، و سبيل الشكر هداه و ألهمه، سبحان ربي ما أعظمه..

قال ربي و هو أصدق القائلين: (لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ ٤ ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ ٥ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ فَلَهُمۡ أَجۡرٌ غَيۡرُ مَمۡنُونٖ ٦ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعۡدُ بِٱلدِّينِ ٧ أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِأَحۡكَمِ ٱلۡحَٰكِمِينَ ٨)

و أشهد أن لا إله إلا الله واحد في ملكه، حكيم في صنعه، محيط بخلقه، خلق العوالم بفيزياء محكمة، وأحكمها بكيمياء متقنه، و ضبطها بشريعة مقننة.. و أشهد أن سيدنا و نبينا و أستاذنا محمدا رسول الله خير من عرّف بالعوالم و بين المعالم، و تمّم في الأخلاق المكارم، صلى الله عليه وسلم، ما دامت ذرّة تسبح الله بحمده، و خلية تمتثل أمر الله في خدمة خلقه، و على آله و صحبه و سلم..

أزمة العالَم المثقف في الألفية الثالثة هي الثقافة، أو أزمة العالَم المتعلم فيه هي العلم، و ذلك من جهتين، من علماء الدين الذين لم يستطيعوا أن يرقوا بإيمانهم في علم المادة، أو من علماء المادة الذين لم يرقوا بعلمهم في علم الدين.. و كأن الفرد في العقود الأخيرة بدأ يحصر الدين في ظاهر الشرع، و يحصر علم المادة في التقدم والتكنلوجيا، أو كما تسمى العولمة أو التحرر الفكري.. و السبب في ذلك فرْز العلوم عن أصلها بل جرد العلوم من لبها.. و لسنا في حاجة إلى مناقشة أسباب ذلك بقدر ما نحن بحاجة إلى معالجة ذلك..

صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم حيث قال: أنتم أعلم بشؤون دنياكم.. في قضية النخل و حفر الخندق... فنور الحديث و سره أن الحبيب المحبوب كان يشرع للناس أمر دنياهم، حتى يبقى الاجتهاد شياعا بين المجتهدين، و إلا فمتى غاب عنه صلى الله عليه وسلم أمر من أمور الآخرة حتى يغيب عنه أمر في الدنيا، و متى كان أمر الدنيا في معزل عن أمر الدين، و متى تمت حلاوة الدنيا لأحد و السعادة فيها إلا بالقرب من الله الكريم الرحيم..

نحاول بفضل الله و حسن توفيقه في هذه الحصة الأخيرة أو ما قبلها، و قبل المرور إلى الجزء الثاني من البحث إلقاء نظرة على وجه من أوجه التفسير أو التأويل، نوضح به ما ظهر من بعض الآيات من كتاب الله، نستدل بأرقى ما وصل إليه علم المادة، و ننظر في علوم القرآن أين وصلت هذه العلوم الظاهرية من علم الحقيقة، الذي هو علم التوحيد، الذي جاء صريحا في كتاب الله و سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم..طمأنة لأبنائنا و بناتنا في الجامعات و الملتقيات، تحرزا من هؤلاء المتفلسفين و المتفيقهين، الذين لم يجدوا سندا لإرضاء نزواتهم والتعبير عن كبتهم و النصرة لمرضاة شياطينهم، إلا التهجم على دين الله و عقر عباد الله المتمسكين بشرع الله..

قال تعالى: (لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ ٤ ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ ٥)... من سورة التين العظيمة..

لقد، جواب القسم عند النحاة، و أداة القسم هي الواو في بداية سورة التين، قال تعالى: (وَٱلتِّينِ وَٱلزَّيۡتُونِ ١ وَطُورِ سِينِينَ ٢ وَهَٰذَا ٱلۡبَلَدِ ٱلۡأَمِينِ ٣)..

أما على الأنوار القرآنية فكيف يقسم من به يكون القسم، و كيف يقسم بشيء حرم به القسم على خلقه، فالواو في أول السورة من حروف الرسالة و لها من الأنوار الموت في الحياة، و معناها أن الجليل جل في علاه يحث بالالتزام التام لما سيتلى و الحرص كل الحرص على ما سيملى، و الموت عن كل شهوة و نزوة تصد عن سماع كلام من على العرش استوى..

أما لقد الجوابية، فاللام للعلم الكامل و القاف للبصيرة و الدال للذوق لأنوار، فالحق سبحانك ربي يقول فيها: اعلموا تمام العلم ما أخبرهم به و عوه، و افهموه ببصائركم لكي تتذوقوا كلام ربكم الذي خلقكم وسواكم و هو أدرى بمصالحكم، لا تنفعه طاعاتكم و لا تضره معاصيكم، فتذوقوا الأنوار لكي لا تبقوا عبيدا للأكدار وربكم هو الغزيز الغفار الواحد القهار..

فالذي يقسم، و الذي يدل أو ينبه أو يلزم هو الحق سبحانه، و ما به أقسم أو به ألزم، لا بد أن يكون عظيما لأنه من عظيم صنعه، و إذا نظرنا إلى ما ظهر منه نجده ثلاثة أقسام، كل قسم على اثنين، أما الأول فشطرين منفردين: و التين و الزيتون، أما الثاني و الثالث فشطرين مزدوجين أو مبينين أو مكملين، و هذا ما سنرجع إليه بفضل الله و حسن توفيقه لنرى شيئا بسيطا من التعبير الرباني في روعة الحرف القرآني..

أما الحق فأقسم أو دل و بيّن على أن خلقة الإنسان، هو سبحانه الذي تولى أمرها بنفسه، و نون التعظيم من خلقنا تدل على عظمة الخالق فيما خلق، و على الأنوار تدل على الفرح بالله الذي أمر خلقتنا بنفسه سبحانه، و الألف تدل على امتثال أمره لدوام كرمه عليها و سره فينا.. و يدل عليه ما بقي من الآية: في أحسن تقويم، و لم يقل الحق و قومنا خلق الإنسان، فيكون خلق الإنسان مقوم و فقط، و لم يقل الحق و خلقنا الإنسان في تقويم حسن، فيبقى من هو أحسن منه، و لكن الحق جل في علاه قال: لَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلۡإِنسَٰنَ فِيٓ أَحۡسَنِ تَقۡوِيمٖ ، يعني ليس تقويم أي مخلوق أفضل من تقويم الإنسان.. أو أن الإنسان هو الذي فاز بأحسن التقويمات و أفضلها تكريما من الحق سبحانه جل شأنه و تعزز سلطانه..

و تضيف الآية: ثُمَّ رَدَدۡنَٰهُ أَسۡفَلَ سَٰفِلِينَ..

ثم، تفيد الترتيب على التراخي، و على الأنوار الثاء تفيد الإنصاف و الميم لها الذكورية.. يعني أن الارتداد إلى أسفل سافلين يترتب باستحقاق بعد ما يرفض العبد أحسن التقويمات التي أقامه فيها الحق سبحانه و تعالى، و أعرض عنها بإعراضه عن الحق و فعل الحق و قول الحق..

فالتراخي من ثم يفيد على أنه بما أن الإنسان وصل إلى هذا التقويم و هذا التكريم بغير حول منه و لا قوة، فإنه إن لم يلتزم فيه الأدب مع العليم الكريم (وذلك الالتزام هو حصنه)، فإن مقام التكريم و التقويم يتبدل له بالنزول إلى أسفل السافلين ( لأن عدم الالتزام بتره وزواله).. وهذا يلخصه القرآن الكريم في خلق آدم، وعلمه ما لم يكن يعلم، وخلق له زوجه، وأدخله الجنة وقال له: وَقُلۡنَا يَٰٓـَٔادَمُ ٱسۡكُنۡ أَنتَ وَزَوۡجُكَ ٱلۡجَنَّةَ وَكُلَا مِنۡهَا رَغَدًا حَيۡثُ شِئۡتُمَا وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ... حتى يعلم أن كل شيء خلقه الله لا بد أن يكون في أكمل نفعه وأجمل عطائه، كل هذا كان للإنسان الأول ولم يكن له إلا منع أو محرم واحد (وَلَا تَقۡرَبَا هَٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ) .. فنوع التحريم كان مطابقا لذلك التكريم...

وللطب أن يتصور كيف كان يأكل آدم وزوجه من الجنة التي لم يغرسا ومن الثمار التي لم يصونا وفي الوقت الذي يريدا وبالطريقة التي لم يعرفا... حيث كان الأكل نورانيا (تساق إليهما البروتينات والفيتامينات والأنزيمات... وكل المواد التي يحتاجها الجسد مباشرة إلى العضو الذي يحتاجها (ومن أراد أن يتعجب من هذا فليتعجب من أكل الجنين في بطن أمه، وليتعجب من الرسول الكريم الذي يرسل في صومه ففعل بعض الصحابة مثله فنهاهم وقال لهم: إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني.. أما الشجرة أو فصيلة الشجر المحرم على آدم فكان ماديا مثل ما نعرفه اليوم.. فَلَمَّا ذَاقَا ٱلشَّجَرَةَ بَدَتۡ لَهُمَا سَوۡءَٰتُهُمَا وَطَفِقَا يَخۡصِفَانِ عَلَيۡهِمَا مِن وَرَقِ ٱلۡجَنَّةِۖ.. سرت ألياف الطعام في المعدة ثم في الأمعاء ولما تم امتصاص المواد النافة وجب خروج الفضلات..

هذا ما يلزم علماءنا الاعتماد عليه في التفسير والتأويل حتى تصقل عندنا ملكة البحث العلمي النافع، ويفهم المتدين أن الأمر ليس طقوسا دينية تقام لتهدئة النفس وإراحة السياسيين.. (فلنمسك ولنكمل ما نحن فيه)..

فنور الثاء يدل على أن العبد استحق ذلك، أما نور الميم فبفضل الله لا يُزيل عنه هذا النور الذي هو نفع العباد و البلاد...و هذا تبينه شطن إبليس في الإضلال من قوله تعالى: (و استفزز من استطعت منهم).. فالاستفزاز معناه الاستنزال من مقام التكريم و التقويم الذي خلق الله فيه الإنسان...

و حتى لا يتفلسف متفلسف و يقول لماذا يحاسب العبد على مقام وجد فيه بدون اختيار، نقول له، أن طبيعة الاختيار و حقيقته أوجدتك و لم تكن شيئا، ورجحت وجودك على عدمه، و فضلتك على كثير من المخلوقات، و ميزتك بكثير من الحواس و الأنوار و الملكات، فاخترت الصمم على السمع و العمى على النظر، فتكون أنت الذي اخترت التخلف عن كوكبة التقويم و التكريم، فكان نصيبك التدحرج إلى أسفل سافلين..

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَـنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ..

وُجد الانسان بين كثير من المكونات و المخلوقات يجمعه معها فيزياء حياتية معقدة و مركبة، يعتبر فيها الإنسان من المنظور المادي كذرة في فلاة، و الناظر عن قرب بتخصص في فيزياء الحياة يرى أن الإنسان فعلا مؤهل حقيقة للتأقلم مع هذه الفيزياء الطبيعية المعقدة..

مثال لذلك..

الإنسان بطبعه يختار الحياة و يعمل على البقاء، و يترتب عليه مع هذا الاختيار أن يختار ما بين مائة مليون نزوة، تنكب في كل ثانية، على جهازنا العصبي، يختار منها ما يوافقه و ينفعه، و في نفس الوقت يتخلى عن الباقي، لأننا إذا أردنا أن نقبل الكل فسوف نكون مرهقين إلى حد الموت من الخبل، و عليه فالطاقة المتناولة محددة و منظمة بدقة، عدد صغير منها يصل إلى الدماغ، و عدد أقل منه يصل إلى أماكن مخصصة، حيث يعطينا شعورا بالوعي...

و قد وصل الخبراء إلى هذا بوضع آلة تسجيل بحساسية الأذن، فالتقطت أصواتا كثيرة و غريبة، آتية من الأعماق أكثر مما توجد في الحياة الواقعية.. هكذا وصلنا إلى أن المخ يرفض سماع تلك الأصوات، و من هذا يعني أن الجسم بطبيعته يختار..

فيبقى السر في توجهه للاختيار.. فإذا كان الإنسان في سوق مكتظة و صرف همته في البحث عن بضاعة معينة، أو مع كلام رفيق مصاحب، فطبيعة جهازه العصبي تعمل على تحقيق مراده بقدر كفاءته في اختيار توجهه، فإن كان متزن الطبع متوازنه فإن مراده يحصل بدون تعب و لا نصب، و بقدر الخلل في جهازه العصبي تكون صعوبته في تخطي صعوبات الضجيج و الوصول إلى مبتغاه..

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire