لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَـنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ..

فلكي نكون طبيعيين حقيقيين و نافعين و منتفعين يجب علينا أن نتخلص من كل ضار، لأن حقيقة الطبيعة خولت لنا آليات تفيد في ذلك و تعمل عليه و هي ظاهرة، كالسمع و البصر و الذوق و اللمس و الشم...

و آليات أخرى معوضة و مكملة متخفية تبدأ فعاليتها مباشرة و بدون تكليف كلما تحقق الإنسان من طبيعته الإنسانية و تطبع بحقيقته البشرية، فلا غرابة إذا علم الإنسان أن الخفاش يرى بأذنيه، حيث يرسل صوتا غير مسموع على مجرى التوتر العالي، و الثعابين ذات الأجراس ترى من خلال جلدها، فهي تهتم و تتبع حركات فريستها في الظلام، و ذلك بواسطة خلايا إحساسية..و الذباب يتذوق الطعام برجليه، و يعتبر جسمه كله عضو حواسي...

فهذه الطاقة الإحساسية هي طاقات موجودة في كل الخلائق، و طبيعة الحقيقة تبين هذه النماذج من الطاقات قصد اكتشافها و العمل على إحيائها.. فلا غرابة في أن نسمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم و هو يقول: (إنني أرى من أمامي كما أرى من خلفي)..و فعلا كان صلى الله عليه وسلم يصحح للمصلين ما أخطأوا فيه و هو يأمهم، و كان يخاطب من وراءه بما يُفعل من حركات و هو يسير أمامه و كذلك اتجاه عينيه عليه أفضل الصلاة و أزكى السلام..

و أبو يوسف يعقوب عليهما السلام قال لمن حوله: (إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَۖ لَوۡلَآ أَن تُفَنِّدُونِ).. و كان قميص يوسف قد خرج به حامله من مصر، و يعقوب موجود في فلسطين الحالية، و العبارة واضحة في القول: إِنِّي لَأَجِدُ ، و لم يقل إني أشم، و قال رِيحَ يُوسُفَۖ و لم يقل رائحة يوسف.. وهو يعلم أنهم محرومون من هذه الحواس الدقيقة ولذلك قال: لَوۡلَآ أَن تُفَنِّدُونِ.. (والتفنيد هو التخطئة وربما تسفيه الرأي...)

فالحق سبحانه و تعالى يعلمنا بالواضح مدى طبيعة الحواس الحقيقية و حقيقة الحواس الطبيعية.. فهذه كرامات طبيعية تأتي بطبيعة هجومية، و بدون حتى البحث عنها و التفكر فيها، تماما كما وجدها الخفاش بين في أذنيه.. و وجدها ثعبان الأجراس في جلده، و الذباب في رجليه..

و مع ذلك فعند أهل الخاصة من العباد الذين تخلصوا من شوائب التدبير و الاختيار و لم يكن لهم مع غير الحقيقة قرار، كلما انفتحت لهم حاسة كانت بالطبيعة مطموسة، استعملوها في حقيقة العلم وهو اكتشاف الطبيعة الحقيقية و الحقيقة الطبيعية..

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَـنَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَـهُ أَسْفَلَ سَـفِلِينَ إِلاّ الذِينَ ءامَنوُا وَ عَمِلُوا الصّالِحَـتِ)..

فالإنسان خلق في مقام التقويم و التكريم، و إن لم يكن من أهله و لم يعمل من أجله، فإنه يتدحرج و إن كان في أحسن تقويم إلى أسفل السافلين، إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات..

فإلا تفيد الاستثناء، و على الأنوار عدم امتثال أمرين لله عز و جل الأول للألف الأولى و كسرها للبشرية والثانية و هي مفتوحة و هي للرسالة و ذلك لما برز من العلوم و اسحسن في الفهوم، و الاستثناء هنا كذلك في استثناءين أولي و ثانوي..

أما الأولي فمعناه أن الذين آمنوا و عملوا الصالحات في مقام التقويم هم مستثنون من النزول إلى أسفل السافلين، و أما الذين لم يؤمنوا فلا يستحقون مقام التقويم، و الذين يقولون أنهم آمنوا و لم يعملوا الصالحات، فليسوا حقا مؤمنين، فلا يليق بهم مقام التكريم.. و أما الذين آمنوا و برهنوا على إيمانهم بالعمل الصالح فإنهم فعلا مؤمنون و مستحقون مقام التقويم و التقويم..

أما الاستثناء الثاني، فهو أن الانسان المخلوق في أحسن تقويم و المستحق مقام التكريم بطبعه و أصله ونشأته، فإنه إن تقهقر و تدحرج و انحل و استزل من هذا المقام النابل و سقط في الحابل، فإنه إن تمّر وشمّر، و جد و اجتهد فإنه يرجع و يطفو و يسمو و يرقى سلالم التقويم و مدارج التكريم فضلا من العليم الحكيم الرحمن الرحيم..

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire