علم الاجتماع على الأنوار المحمدية

بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ

اللهم صل على سيدنا محمد الذي انشقت منه الأسرار و انفلقت منه الأنوار، و فيه ارتقت الحقائق و تعلقت علوم سيدنا آدم فأعجز الخلائق، و له تضاءلت الفهوم فلم يدركه منا سابق و لا لاحق، و على آله و صحبه و من كان على نهجه و محجته و سلم تسليما..

قال ربي عز و جل: (بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ٱلرَّحۡمَٰنُ ١ عَلَّمَ ٱلۡقُرۡءَانَ ٢ خَلَقَ ٱلۡإِنسَٰنَ ٣ عَلَّمَهُ ٱلۡبَيَانَ ٤ ٱلشَّمۡسُ وَٱلۡقَمَرُ بِحُسۡبَانٖ ٥ وَٱلنَّجۡمُ وَٱلشَّجَرُ يَسۡجُدَانِ ٦ وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ ٱلۡمِيزَانَ ٧)..

إن ما سلف ذكره في الحصة السابقة بمثابة توطئة لمعرفة حقيقة العمل بالعلم، لأن ما خلقه الجليل جل في علاه هو توازن بين المكونات و الكائنات، و ذلك ما سماه سبحانه في سورة الرحمن بالميزان.. و تلك المحافظة على حقيقة مقومات المخلوقات في كل ما خلقها و أقامها رب الأرضين و السموات، فالمقصود عندنا هو الميزان..

وضع الميزان في اللغة يعني الرجوع إليه و الكيل به و التحكم إليه، فإن كان في البضائع فما يوزن بها، و إن كان في الأشياء و الأمور فبما يقاس بها، و إن كانت الأحكام فبالعدل فيها، و كل ما يوزن من أمور و أشياء فلها ميزان أكبر يزن الموازين الفرعية هو ميزان الحقيقة و قسطاس الشريعة الذي يفرق بين ميزان الحق و ميزان الباطل..

فإذا كان ميزان السلوك في المجتمعات يوزن بالقوانين الوضعية فما هو ميزان هذه القوانين نفسها؟؟ و إذا كان قانون التجارات و الصناعات و الفلاحات يوزن على حسب الأعراف المتفق عليها فبماذا نزن هذه القواعد و هذه الأعراف؟ و ما هي القواعد التي انطلقت منها و أسست لها هذه الموازين، و الميزان الحق يوصي به الحق في قوله تعالى في سورة هود: (وَيَٰقَوۡمِ أَوۡفُواْ ٱلۡمِكۡيَالَ وَٱلۡمِيزَانَ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ وَلَا تَعۡثَوۡاْ فِي ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِينَ ٨٥)..

فكل فعل و قول و حركة و علم و بحث في التجارة أو الصناعة أو الفلاحة أو السياسة أو أي شيء كان أو يكون إلا و له ميزان حق يجب أن ينطلق به و منه ليكون العدل و القسط و النجاح و الفلاح مبدأ، ثم نرجع و نراجع ميزان الحق كلما اختلط علينا فيه الكيل أو تكاثرت أو تضاربت علينا نتائج الموازين، لأنها محققة من الحق و لو بعد حين بدليل قوله تعالى: (وَنَضَعُ ٱلۡمَوَٰزِينَ ٱلۡقِسۡطَ لِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَلَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡٔٗاۖ وَإِن كَانَ
مِثۡقَالَ حَبَّة
ٖ مِّنۡ خَرۡدَلٍ أَتَيۡنَا بِهَاۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ ٤٧)

فموازين القسط ليوم القيامة هي مراجعة لموازين القسط في الدنيا.. و هدفنا هو التعريف بموزاين القسط في الدنيا، فموازين الحق و القسط و العدل مجمعها و مصدرها و أصلها هو كتاب الله و مشرعها هو الله، و مبينها و موضحها و المشرق بأنوارها و المبين لأسرارها هو رسول الله صلى الله عليه و سلم و شرف و عظم..

فيجب أن نراجع كل قول و كل فعل على أنوار و أسرار ما ورد في كتاب الله و أشرقت به سيرة رسول الله.. و هذا الذي نريد أن نصل إليه..

فإذا طرحنا سؤال: هل هناك ميزان حق مبين و قسطاس مستقيم نرجع إليه في كل أقوالنا و أفعالنا في كل ما تتوقف عليه حياتنا في التجارة والصناعة والطب والكيمياء والفيزياء وعلم الاجتماع وكل عرفنا من العلوم ؟؟..

الجواب نعم.. فإذا لم نتوفق في معرفة هذه الموازين فالعيب فينا و ليس في كتاب الله و النقص فينا و ليس في سنة رسول الله..

فالمقصود بهذا البحث المتواضع أن نلفت انتباه المهتمين في كل الميادين، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، إلى لبنات و أسس و قواعد كل بحث علمي، و إنها لضالة كل الباحثين و المهتمين، و هي حقائق مشرقة بالأنوار مصانة بالأسرار، جاءت في كتاب الملك الغفار مكور الليل و النهار، جاء بها النبي المختار عليه أفضل الصلوات و أزكى السلام.. جاء ميزان القسط فيها شاملا كاملا وحيا من عليم حكيم، سلم كل عملٍ به بدأ و استقام كل من إليه رجع، و ضاع كل من عنه زاغ..

إذا تصورنا الحضارة بمثابة عمارة فالميزان فيها معايير الهندسة.. فإن بنيت على أسس سليمة صح لها أن تعلو و تسمو ما دام سيرها مطابق للميزان الهندسي، و إن فسد شيء في البنيان سهل تقويمه من حينه، خلافه إذا فقد الميزان في الأساسات، فالبنايات مهددة بالخراب حتى لو أتقن بنيانها و جملت واجهاتها، كذلك العلوم التي هي أصل في نفع العباد و البلاد، كيف تصمد و الأسس خربة و كيف يكون منها النفع و هي فاسدة(أَفَمَنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ تَقۡوَىٰ مِنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٍ خَيۡرٌ أَم مَّنۡ أَسَّسَ بُنۡيَٰنَهُۥ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٖ فَٱنۡهَارَ بِهِۦ فِي نَارِ جَهَنَّمَۗ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّٰلِمِينَ ١٠٩)..

علم الاجتماع:

نحط رحالنا للبدء بهذا العلم كما يسمى حاليا و نبدأ بنبذة من تاريخه و باب من أبوابه.. هذا العلم كما يقول العرب و الغربيون على السواء أن الذي أسس له هو العالم المغربي المعروف ابن خلدون، و الحقيقة أن لفن الاجتماع و التجمع و صيانة المجتمعات أسس و قوانين حقيقية، إن ظهر منها ما أبهر العالم الغربي فلأن الرجل كان على بينة من ربه و على سنة نبيه.. و لم يذكر العالم الفذ الشهير ابن خلدون إلا نماذج من سلوكات المجتمعات في مختلف البقاع، فعليها بنى بعضا من أحكامه حينما تولي القضاء في مراحل من حياته و عليها كان يدل في بعض تدريسه و كل كتاباته، و إن كان مفكروا الغرب أو العرب الذين تبعوهم وجدوا في المنهج استحسانا، فإنهم لم يأخذوا من أسس البحث و لكنهم أخذوا نهج الاجتهاد دون مراعاة القواعد التي استمد منها العالم أو من سبقه ممن لم يؤرخ لهم بعد و لم يستشف في نهج اجتهاداتهم منابع الإمداد و مناهل الاستمداد.. و الواقع أن البحث في هذه التسمية لا يزال يفتقر إلى ميزات الحقيقة بعدم إرجائه إلى معايرها و مقاييسها حتى من المتخصصين في الغرب أو حتى من بعض علماء الظاهر..

فلننظر معا إلى باب من هذه الأبواب كابتداء حتى يتمكن القارئ الكريم من نصب هذه الموازين أو تحديثها على أنوار سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم.. قال تعالى: (وَلَقَدۡ صَرَّفۡنَا فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٖۚ وَكَانَ ٱلۡإِنسَٰنُ أَكۡثَرَ شَيۡءٖ جَدَلٗا ٥٤)

 

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire