مقدمـة

بسم الله الرحمن الرحيم

    الملك الحق المبين، خلق كل شيء بعلم وحكمة، و أحاطهم بعدل و قدرة، و شملهم بلطف و رحمة، لا تخفى منهم عليه سبحانه خافية إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ إِلَّآ ءَاتِي ٱلرَّحۡمَٰنِ عَبۡدٗا ٩٣ لَّقَدۡ أَحۡصَىٰهُمۡ وَعَدَّهُمۡ عَدّٗا ٩٤ وَكُلُّهُمۡ ءَاتِيهِ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَرۡدًا ( مريم)..

   و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الكون و نظمه، و خلق الانسان و قومه، و سبيل النجاة هداه و ألهمه، بعث لنا من أنفسنا أنبياء و رسلا، و بعث معهم زبرا و صحفا و كتبا، اصطفى لنا من الأنبياء إمامهم، و من الكتب أعظمهم قرآنا، و أفصحهم بيانا، وأبينهم حلالا و حراما، و أشهد أن سيدنا و حبيبنا و قدوتنا و شفيعنا محمد رسول الله، باب سر الله المصون و سر نوره المكنون و نور سره المكنون، و أشهد أن هذا كتاب الله، نزل على رسول الله، فيه حكم الله، و فيه أمر الله، و فيه الطريق إلى الله، جمع فيه السر بين الكون و تنظيمه، و المنهج الأسلم في إصلاح الإنسان و تقويمه، هو الميزان الذي تقاس عليه ما اعوج من التجارب و العلوم، و هو الذي يقوّم ما انحرف من النظريات و الفهوم. قال تعالى فيه: مَّا فَرَّطۡنَا فِي ٱلۡكِتَٰبِ مِن شَيۡءٖۚ  ( 38/ الأنعام)..

   فمن شروط الإيمانِ الإيمانُ بكتاب الله، يعني بما جاء في كتاب الله، و من هنا يكون من الإيمانِ الإيمانُ أن الله ما فرط في الكتاب من شيء، و هذا يعني أن كل شيء و أي شيء؛ صغيره و كبيره، ظاهره و باطنه، في الدين كان أو في الدنيا، أو في السماء أو الأرض، ما علمه العالمون و جهله الجاهلون- إلا و حكمه و سره و أصله في كتاب الله تعالى الذي لا ياتيه الباطل.. و عليه فإذا تبين أن الباحث- لا أقول التبس عليه الأمر- في عقيدة أو في حكم أيا كان هذا الحكم في أمور الدين أو الدنيا، يعني حتى في سائر العلوم ما عرف منها البشر و ما لم يعلمه، موجود في كتاب الله حكما و علما- إذا لم نتوفق في استنباطه و معرفة الحكم فيه من كتاب الله؛ فالعلة فينا بالجهل عن كتاب الله وليست في كتاب الله الذي لا ياتيه الباطل..

   سبق ذكر الكون و نظامه و الإنسان و تقويمه، فالحق جل في علاه خلق الكون، وخلق له نظاما و تلك زوجية الاستمرار، والله هو الممد و هو الواحد القهار، فمادة الكون التي هي الشجر و الحجر و الجبال و السماوات والأرضين ليس لها انفكاك من نظام الكون الذي هو ملخص في الخير و الشر، و الذي هو متوقف على سلوك الثقلين المكلفين الجن و الإنس، فإذا كانت مادة الكون ترمز إلى الحقيقة فسلوك المكلفين يرمز إلى الشريعة، و إذا كانت مادة الكون أصل في الحقيقة فالسلوك القويم محافظ على هذه الحقيقة، و هذا رأس الحكمة.. و هذا المقصود بالخلافة..

   فكل خلاف حصل أو هو الآن حاصل فحكمه الفاصل الشافي في كتاب الله و في سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم قال تعالى: يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِي ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا ( النساء  59)

    فأي نزاع أو تنازع حصل بين المؤمنين في الخلاف أو في ذواتهم و أنفسهم في الفكرة و النظرة و الرأي يجب رده إلى الله و الرسول، فإن مجرد ردّه فقط يحصل منه التوافق و التطابق و الرضا، و لكن قبل الرد يشترط ما هو لا بد منه و هو ما سبق من الآية..و هي طاعة الله و الرسول و أولي الأمر، فطاعة الله متوقفة على تطبيق ما ورد في كتاب الله، و طاعة رسول الله متوقفة على اتباع سنته الطاهرة الشريفة التي تبين ما ورد في كتاب الله، و طاعة أولي الأمر و هم العلماء العاملون و الأولياء الصالحون الذي يتوفرون وحدهم على آلية تطبيق السنة المحمدية الشريفة كما وردت عنه صلى الله عليه و سلم، وكما تعلمها من رب العزة تعظم جاهه و تعزز سلطانه..

   فإذا أردنا أن نتطرق إلى بعض الجوانب من هذه الآية الجليلة فقط، نجد أن الإيمان الحقيقي مشروط فيه طاعة الله و الرسول و أولي الأمر، فلا يكمل إيمان إلا بطاعة حقيقية لما ورد في هذه السلسلة النورانية..كتاب الله، فإن لم نجد وجدانا للبحث و طاقة نورانية للاستنباط، و لايمكن أن توجد أكثر مما وجدت عند الحبيب المحبوب سيدنا محمد، إذن فسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم، فإن لم نجد آليات إيمانية و رسوخا ربانيا في فهم السنة الشريفة يلزم رد الأمور إلى أولوا العلم الذين هم أولوا الأمر، و جاء في هذه الآية الجليلة من الأسرار ما يجب الوقوف عنده في وصف أولوا العلم أو العلماء العاملين أو الوارثين لسنة رسول الله صلى الله عليه و سلم.. قال تعالى: فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ ، و لم يأت هنا ذكر أولوا الأمر و لا أولوا العلم، لأن علمهم بالله وأمرهم في السكون و الرضوخ في سنة رسول الله..

   و من هنا تبين تشخيص زائد لأولي العلم و أولي الفهم و أولي الأمر و العلماء العاملين و أئمة المتقين و الأولياء والصالحين، أنهم لا فتوى لهم إلا ما أمر به الله، و لا نهج لهم إلا نهج رسول الله، و لا رأي لهم إلا اتباع نور رسول الله، و هذا له ضوابط و قواعد و مؤهلات، فليس كل من طَلب نال، و لكن كل من طُلب كان مؤهلا للنوال..

   فإذا وجدنا من الخوارج في فجر الإسلام من يصوم يومه و يقوم ليله و يبقر بطن امرأة مؤمنة و يخرج الجنين من بطنها و يتخطاها مبتهلا إلى الله قائلا: و عجلت إليك ربي لترضى...! و يخرج عن أمير المؤمنين و خليفة رسول رب العالمين و يتحرى الحلال و الحرام في ثمرة بعيدة عن نخلة في الطريق، فخلف من بعدهم خلف، ثم من بعدهم خلف، ثم من بعدهم خلف.. كلهم بالخوارج ملحقون و بالجهالة منعوتون.. كفَّروا المسلمين و استباحوا دماء الأولياء و الصالحين.. الحليم من علماء الأمة من كان يقف أمامهم صامتا مداهنا.. إلا من أخذ الله بيده و كان على نور من ربه و على سنة نبيه و حبيبه.. حتى خرج منهم خلف ألحقهم بما هم أهله، كفر نهجهم و سفه أحلامهم وهدد سلطانهم، بعد ذلك فقط قاموا..؛ خوفا على ملكهم لا دفاعا عن دين ربهم و سنة نبيهم.. قاموا و معهم من البطانة الخاصة من قاموا.. و لم يكونوا من قبل قد قاموا... .

 الأعمى حقا من لا يدرك الخراب الذي آلت إليه الأمة من جراء الجهل بمقاييس النيابة عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في الإفتاء و الدعوة... .

   جوهر بحثنا في حجة رسولنا و قدوتنا و شفيعنا، هو الوحي من الله.. هو كتاب الله.. الذي لا يأتيه الباطل، وإن وجد خلاف بين فئتين حول ما ورد في كتاب الله و سنة رسول الله فذلك عن البعد الحاصل عن منهج رسول الله، و هذا إنما يدل على أن المنهج النبوي أكبر من أن تصله الخلافات، و من وقف عند خلاف في المنهج الإسلامي إنما تهمته إلى المنهج النبوي، و حاشا أن يأتي من الله إلا كل كاف و شاف و كامل..

   فمن لم يجد في كتاب الله و سنة رسول الله الحل الأمثل في ما وقع فيه النزاع فقد أعوزه وجود الأنوار في منهج رسول الواحد القهار.. فحجته داحضة، و أدلته واهية، فإن لم يجد في متشابهه ففي محكمه، و إن لم يجد في ظاهرة ففي باطنه.. و كل أنزله و أحكمه و أقرأه خالق كل شيء و مبدع كل شيء و القائم بكل شيء.. و كل من المتشابه و المحكم و الظاهر و الباطن له قواعد لا يجوز تخطيها، و ثوابت يجب الوقوف عندها، فالظاهر هو الأصل الذي لا مراء فيه و هو إرجاع الأحكام فيه إلى ما ظهر من لغة العرب، و ما ظهر من صحيح السنة الشريفة المطهرة قال تعالى: وَكَذَٰلِكَ أَنزَلۡنَٰهُ حُكۡمًا عَرَبِيّٗاۚ وَلَئِنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَآءَهُم بَعۡدَ مَا جَآءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِيّٖ وَلَا وَاقٖ ( الرعد 27)، فإن اتبعت الأهواء في تناول الأحكام العربية (يعني الظاهرية) وجب ردها إلى ما جاء لرسول الله من العلم، و تلك الأحكام الباطنية من الاستدلالات والاستنباطات.. و القواعد الباطنة من الأحكام لها من القواعد والثوابت مثل ما لقواعد الظاهر، إلا أنها أعمق في الإدراك و أبلغ في الإحكام.. فإذا كان في الفواحش ظاهر وباطن، قال تعالى وَلَا تَقۡرَبُواْ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَۖ  ( الأنعام151) و قال عز من القائل: قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ ( النحل33)..

   فهذا دليل على أن في الفقه و التوجيه و الوعظ ما يدل على الظاهر منها و ما يدل على الباطن، وإن كان ظاهر الفقه في الطهارة و الصلاة تصح به ظاهر الصلاة، فإنما باطن الفقه فيها هو توجه القلب في الصلاة وقد ثبت أن ليس للمصلي إلا ما حضر في صلاته، و هذا له فقه مستقل عن أحكام الوضوء و الصلاة..

   إذا ظهر هذا في الصلاة فهو في كل الأحكام سارٍ و باطن كما بطنت في الأجساد الأرواح، و كما توقفت على الأنوار و الأسرار الأشباح، و هذه العلوم هي موروث رباني عن رسول الله، عن الله جل في علاه، فإن غابت عن غير المتعلم الناسخ و المنسوخ في القرآن، و علم الرجال، أو الجرح و التعديل في سنة ولد عدنان، فقد غابت عن علماء الظاهر أنوار و أسرار الأحكام التي نزل بها الحبيب المحبوب عليه أفضل الصلوات و أزكى السلام، وإن وُجد من الذين يدّعون العلم حسمهم أن الأخذ لا يكون إلا بظاهر القرآن، و أنهم رجال في الاستنباط كما كان الأوائل رجال، نقول لهم قد سويتم بين كتاب الله و كتب من هم يكتبون، و قد اتخذتم مع الله أندادا و أنتم تعلمون أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ بَلۡ أَكۡثَرُهُمۡ لَا يَعۡلَمُونَ ( النمل 61).. أَءِلَٰهٞ مَّعَ ٱللَّهِۚ تَعَٰلَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشۡرِكُونَ(النمل 63)،

   القرآن يسمى كلام الله يَسۡمَعُونَ كَلَٰمَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُۥ مِنۢ بَعۡدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ (البقرة 75)، و القرآن كلمة الله وَلَوۡلَا كَلِمَةٞ سَبَقَتۡ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيۡنَهُمۡۚ وَإِنَّهُمۡ لَفِي شَكّٖ مِّنۡهُ مُرِيبٖ ( هود 110).. و القرآن كلمت الله

وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقٗا وَعَدۡلٗاۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَٰتِهِۦۚ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ( الأنعام 115)...

    فالقرآن واحد و لكن الأخذ منه على درجات، و السنة واحدة، و لكن الأخذ بها له مقامات و في كل خير، و لكن ليس من وقف على ظواهر الأمور كمن غاص في أعماقها وأضاف إلى ظواهرها أسرارها وأنوارها وَمَا يَسۡتَوِي ٱلۡأَعۡمَىٰ وَٱلۡبَصِيرُ وَلَا ٱلظُّلُمَٰتُ وَلَا ٱلنُّورُ ( فاطر 20)..

   فإذا رجعنا إلى كلام الله و كلمته و كلماته نجد: إِنَّمَا ٱلۡمَسِيحُ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ رَسُولُ ٱللَّهِ
وَكَلِمَتُهُۥٓ أَلۡقَىٰهَآ إِلَىٰ مَرۡيَمَ وَرُوحٞ مِّنۡهُۖ (النساء 171) ونجد: وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰٓ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَٰتٖ فَأَتَمَّهُنَّۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامٗاۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِيۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهۡدِي ٱلظَّٰلِمِينَ (البقرة 134)...

    و الأمثلة كثيرة لا حد لها كما أن لا حد لعظيم قديم كلامه العظيم و جليل جميل بهاء وجهه الكريم وَلَوۡ أَنَّمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ مِن شَجَرَةٍ أَقۡلَٰمٞ وَٱلۡبَحۡرُ يَمُدُّهُۥ مِنۢ بَعۡدِهِۦ سَبۡعَةُ أَبۡحُرٖ مَّا نَفِدَتۡ كَلِمَٰتُ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٞ (لقمان 27)..

   فمن وقف على ظاهر القرآن فقد سوى بين كلام الله و كلام الانسان، و هذا عين التجسيم و العياذ بالله، فكلام الله و كلمت الله و كلمة الله.. هي صفات و أفعال و أنوار و أسرار، و هكذا تعلمه الصحابة الأطهار من رسول الملك الجبار، و به كان قول أم المؤمنين لما سئلت عن رسول الله قالت: كان خلقه القرآن، و قالت مرة : كان قرآنا يمشي على الأرض..

   فالقرآن هو الفرقان الذي يفرق بين الحق و الباطل فرقا، و هو البرهان الذي ما فوقه برهان، و هو السلطان الموصل إلى عرفات البر و الهدى و العدل و الإحسان، فيه هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان، فيه آيات بينات، و منه آيات محكمات، و أخر متشابهات، و أخرى مفصلات، كلها آيات الكتاب الحكيم، و الكتاب المبين، لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيلٞ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٖ  (فصلت 43).. من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به هدي إلى صراط مستقيم.. قوله ثقيل: إِنَّا سَنُلۡقِي عَلَيۡكَ قَوۡلٗا ثَقِيلًا (المزمل 5).. لا يشربه إلا من شدَّ الله على قلبه بقوة و قواه بشدة إِنۡ هُوَ إِلَّا وَحۡيٞ يُوحَىٰ ٤ عَلَّمَهُۥ شَدِيدُ ٱلۡقُوَىٰ (النجم 5) و لا يصل كنهه إلا من طهر الله قلبه إِنَّهُۥ لَقُرۡءَانٞ كَرِيمٞ ٧٧ فِي كِتَٰبٖ مَّكۡنُونٖ ٧٨ لَّا يَمَسُّهُۥٓ إِلَّا ٱلۡمُطَهَّرُونَ (الواقعة 79)...

   فالقرآن هو حبل الله المتين، و هو الصراط المستقيم.. و بعبارة علمية، شرعه منظم للكون و في تطبيق شريعته محافظة على مادة الكون.. فالشريعة تخاطب نظام الكون على يد القوم لتحافظ على مادة الكون التي هي حقيقة الكون، و نحن جزء من هذه الحقيقة الكونية.. و خالق الكون وحده أدرى بمكوناته، فأوامره سبحانه أحق بالاتباع وهي المقومات للمحافظة على هذه المكونات و تلك رحمته، و من ابتدع حقت فيه نقمته و تلك حكمته..

   فالتكليف معناه مسؤولية هذا التوازن بين نظام الكون و مادته، فالذي حرم عليك الشيء لكي لا يتأذى منه غيرك هو الذي حرمه على كل غيرك لكي لا تتأذى منه أنت.. و الذي فرض على غيرك كل ما من شأنه إصلاح نظام هذا الكون الذي أنت فيه هو الذي فرضه عليك لتنتفع به و أنت مادة في هذا الكون.. و هذه حقيقة التوازن بين الكائنات و المكونات، و كل من أسرار هذه التوازنات و هذه الكائنات و المكونات- موجودة في كتاب الله العظيم الذي لا يأتيه الباطل، علمه من علمه و جهله من جهله.. و هذا هو محكم التنزيل.. بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ الٓرۚ كِتَٰبٌ أُحۡكِمَتۡ ءَايَٰتُهُۥ ثُمَّ فُصِّلَتۡ مِن لَّدُنۡ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (هود )..   و الناس في الإيمان و العمل به على ثلاث مراتب..

   رجل أنكره أو جهله و عطل العمل به أو أهمله، فقد حشا في نظام الكون ما ليس منه، و عطل فيه بما ليس منه، ودفع به إلى عكس ما خلق من أجله، فهذا على غير الصراط المستقيم، ضار بنفسه معطل نفع غيره، فهو من المغضوب عليهم أو من الضالين..

    و رجل آمن به على هواه و عمل به على غير مقتضاه، فهو يلحق بالمعطلين و الحشويين..

   و رجل آمن به و اتبع هداه.. و عمل به على ما يرضى الله.. فهو من المؤمنين حقا، و من المتقين صدقا، نفعه على قدر عمله، و الانتفاع به على قدر تقواه..

   و لعلي أطلت في جمع العناصر مع بعضها، و إلحاق الفروع بأصلها، علاقة الإنسان بالإيمان، و علاقة الإيمان بالتنمية، و علاقة التقوى بإصلاح الأزمان و الأوطان و الإنسان، و موقع كل هذا بكتاب الله تعالى..

   ما علاقة حقيقة الإيمان بنظام الكون؟ و ما علاقة حقيقة التوحيد بمادة الكون؟ و هل للفطرة دور في هذا التوازن الطبيعي الحقيقي، و ما موقع ذلك في كتاب الحنان المنان و سنة سيد ولد عدنان..؟ و كيف وقع الحشو في حقائق الأمور و التعطيل في أنظمة الطبيعة..؟

   أسئلة و مثلها كثير لم يكن ليغيب حكمها في كتاب الله، و بيانها و التنظير لها في سنة رسول الله، و لم يكن بالإمكان الوقوف عليها من أي كان، لإنها حقائق.. أنوار.. أسرار.. لا يكون الوقوف عليها إلا بتوفيق من الحنان المنان، و إن سلف وصف تاريخي لخوارج فجر الإسلام فقد تصدى لهم أهل الإيمان بما هم أهله، أما معطلة آخر الزمان فلم يجدوا من يتصدى لهم، و كثر في عهدهم الهرج و المرج و الكفر و الفسوق و العصيان، بتناولهم لكتاب الله و سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم على الأهواء.. و لم يكفهم كل هذا، بل تمادوا في غيهم و تطاولوا على كتاب الله و سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم..

   قال أحدهم: أن رسول الله كان أميًّا، و كذلك الصحابة، وكتابة المصحف الشريف لم تكن على الوجه المطلوب في نقصان بعض الحروف و زيادتها و بسط بعض التاءات و ربطها و إثبات بعض الألفات و حذفها، فلا يرى هؤلاء ضيرا في إعادة صياغة القرآن بما يتلاءم مع قواعد و ضوابط اللغة العربية..

   و قد يستغرب كل واحد من سماع هذا حتى لو كان منهم، و المصيبة كل المصيبة أن هذا بدأ بالفعل و العمل به سائر في جل المنتديات التي تعتني بالقرآن الكريم كتابة و تحفيظا كما يقولون أو يدعون، فنصوص القرآن مكتوبة بدون أي اعتبار لكلمة القرآن، و هذا خطر ما بعده خطر و ضرر ما بعده ضرر، و لم نجد من علماء المسلمين من نبه لهذا أو حذر منه، رغم أن الإمام مالك عندما سئل عن ذلك قال: لا، و الشافعي حرم ذلك تحريما..!

   و ليت هذا توقف هنا فحسب، بل فتحت سجالات بعض من سموا مفكرين و متفلسفين، في المشرق والمغرب، منهم هذا الذي جاء يشكك السذج في أن القرآن الذي بين أيدينا هل هو تام أو ناقص؟؟ فإذا كانت نظرة العلماء جادة في الردود على الذين تطاولوا على شخص رسول الله صلى الله عليه و سلم، فما ردهم على هؤلاء، و ما تقويمهم لهم، في دول إسلامية و حكام مسلمين و شعوب مسلمة؟؟؟ ...

   قال أحد الصالحين إذا اصطدم أهل الشريعة بالشريعة فلا مخرج إلا في الحقيقة، و هذا معنى قوله تعالى: فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيۡرٞ وَأَحۡسَنُ تَأۡوِيلًا (النساء 59) .. فإذا لم يجد أهل الشريعة ما يكفيهم حججا لمن يحاجهم في الشريعة فالمرجع في الحقيقة، فالحقيقة لا ينكرها إلا ضال أو مضل.. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل في الحقيقة على علوم كثيرة و متواترة مثل ما في الشريعة تماما، و لها آليات و تلزمها مؤهلات كما هي سائر العلوم، و في هذا البحث البسيط نتناول واحد منها هو علم حرف القرآن .. سميته: علم الحروف فوق ما هو مألوف..

   و هو علم من علوم القوم، مجهول بين العوام، جاء فيه الإذن من أهل الله به لمن سبقت له فيه العناية.. أسأل الله العظيم، رب العرش العظيم، أن يعيننا جميعا على فهمه على الوجه المطلوب و تبليغه إلى المحبين المخلصين.. إنه ولي ذلك و القادر عليه و ما التوفيق إلا بمن عند لله.. عليه توكلت و عليه يتوكل المتوكلون..

   هذا الحرف الرباني الذي نزل في الذكر القرآني هو كذلك وحي من الله على رسوله، و هو صلى الله عليه و سلم الذي كان يأمر بكتابته على الوجه الذي هو عليه الآن، ففي حرف القرآن سر كما أن في معناه سر، و في تنسيقه سر و بلاغته سر...

    فسرُّ القرآن في باطن حروفه لا يختلف عن سره في ظاهر قراءته، و سره في احتواء العلوم لا يختلف عما ظهر لأهل الفهوم والمادة والعلوم، و إذا بحثنا عن أسرار المكونات و الكائنات و سائر السلوك في المخلوقات فإنها حتما موجودة في كتاب رب الأرضين و السماوات، فإن لم نجدها ظاهرة في تركيب العبارات فإنها مطويات في حروفها منطوية على جواهر أسرارها و لآلئ أنوارها، و إن جهلها الجاهلون، فإن أهلها بها عالمون عليها عاملون.. لا يضرهم من ناوءهم.. يتواسون فيما بينهم.. هم الوارثون حقا.. اللهم لا تزغ بنا عن نهجهم القويم و صراطهم المستقيم.. هذا هو موضوع البحث .. و بالله التوفيق..

 

الفقير إلى مولاه العلي القدير:  محمد السعيد

 

0 Commentaire(s)

Poster un commentaire